الواجب الإنساني يفرض علينا اليوم أن نحمي أطفال غزة من الموت جوعاً، لا مجازاً، بل واقعاً يومياً مفزعاً. في قطاع محاصر، تحوّلت الطفولة إلى معركة من أجل البقاء، وسط دمار لا يرحم، ونقص في الغذاء والدواء، وصمت دولي يحاصر المعاناة أكثر من المعابر، أطفال يُحرمون من أبسط حقوقهم: وجبة مشبعة، حضن آمن، سرير دافئ، مدرسة، دواء، أو حتى مجرد شعور بالحياة.

في الوقت الذي تتكدّس فيه الإغاثات خلف الحواجز السياسية، يبقى الطفل الغزّاوي أضعف حلقة في سلسلة التجاذبات، الجوع بات سلاحاً، الرغيف بات أملاً صعباً، أمهات يحاولن إقناع أطفالهن بأن الماء قد يغنيهم عن الطعام، وآباء يقفون في طوابير الإذلال وهم يعلمون أن الخبز وحده لم يعد كافياً لذا، فإن تأمين الغذاء يجب أن يكون على رأس الأولويات، ليس بوصفه معونة، بل كحق لا نقاش فيه.

لكن ما بعد الجوع لا يقل قسوة. من نجا من المجاعة، لم ينجُ من الخوف، فأطفال غزة محاصرون بالكوابيس، بصدمات القصف، بفقدان الأهل والأصدقاء، جيل كامل يعيش داخل ذاكرة مشوهة، فالواقع النفسي متدهور، والعلاج النفسي شبه غائب، يحتاج الأطفال إلى دعم حقيقي، إلى برامج ممنهجة تعيد ترميم الداخل المنكسر قبل أن يُطلب منهم بناء أي مستقبل.

التعليم بدوره، في حالة توقف شبه تام فالمدارس إما مهدّمة أو تحوّلت إلى ملاجئ مكتظة، وملايين الساعات الدراسية ضاعت، ومعها ضاع التوازن والروتين والحق في الفهم والتعبير، فإذا أردنا إنقاذ جيل من الجهل القسري، فعلينا أن نستعيد العملية التعليمية بسرعة بصفوف متنقلة، بحقائب تعليمية طارئة، بمنصات بديلة ولو بسيطة، وبإصرار على أن لا أحد يستحق أن يُحرم من القلم؛ لأنه تحت الحصار.

على الجبهة الصحية، الصورة أكثر إيلاماً. مستشفيات تعمل بأقل من نصف قدرتها، أجهزة عاطلة، أدوية غير متوفرة، وأطفال يتألمون بصمت، بعضهم يحتضر بسبب التهابات بسيطة أو جروح يمكن علاجها بسهولة خارج الحصار، هذا الانهيار الصحي لا يمكن تبريره ولا التستر عليه، يجب فتح ممرات طبية دائمة، وإرسال فرق متخصصة بطب الأطفال، ودعم المستشفيات بما تحتاجه للبقاء.

ووسط كل هذه المعاناة، تظل منظمات حقوق الإنسان والقانون الدولي في موقع المتفرج، بيانات خجولة، إدانات لفظية، ومحاولات «موازنة» بين المجرم والضحية، في غزة يستشهد الطفل مرتين مرة بالقصف، ومرة بتجاهل من كان يُفترض أن يدافع عنه، في حين نرى كيف تُستنفَر المؤسسات لأجل طفل صرخ عليه معلم في مكان ما، بينما تُغضّ البصر عن آلاف الأطفال الذين يُدفنون تحت الركام، أو يُتركون بلا دواء ولا طعام؟ هذا الانفصام الأخلاقي هو أكبر خيانة لما يُسمّى «حقوق الإنسان».

إعادة بناء غزة لا تبدأ من الحجارة، بل من الإنسان من الطفل تحديداً، من إنقاذه من الجوع، من حمايته من القصف، من منحه فرصة ليحلم ويكبر ويتعلّم لا تنمية بدون طفولة، ولا سلام بدون عدالة، وإذا كان طفل غزة اليوم لا يجد ما يأكله ولا من يدافع عنه، فإن تقاعس العالم لم يعد مجرد موقف، بل تواطؤاً مكشوفاً.

وغزة اليوم لا تطلب معجزة، بل أن نكون بشراً، أن نكسر الحصار ولو برسالة تُضمد النفس، أو بصمتٍ كريم إذا خفنا أن تجرح كلماتنا أكثر مما تُواسي. لا عذر بعد الآن. لا معنى لحياد يُكافئ القاتل، ولا فائدة من ضجيج لا يغيّر شيئاً، فالطفل الغزّاوي لا يطلب الكثير.. فقط وجبة لا تُقايَد، صوت لا يخونه، وضمير لا يغلق مثل المعابر، فإن فُتحت الطريق، سنحمل الطفولة على أكتافنا، لا كعبء.. بل كواجب لا نؤجّله، ولا نتركه لغيرنا.

هذا ليس تضامناً، هذا الحد الأدنى من الإنسانية.