ليست كل حقيقة تُقال، ولا كل كلمة تُنشر، ولا كل معرفة تُذاع، في زمن تصدّرت فيه القضايا الأسرية عناوين المنصات، وملأت تفاصيلها الأحاديث العامة، بات من الضروري أن نتوقف أمام سؤال جوهري: أين تقف حرية التعبير، وأين تبدأ حرمة الإنسان؟
هناك قضايا تتعلق بالنسب، والشرف، والحضانة، وخراب البيوت، لا يجب أن تُستهلك كمحتوى، لأن في ذلك كسراً لسترٍ لا يُرمم، وتعريةً لإنسان لا صوت له في وجه ضجيج النشر، فإنّ التداول العام في مثل هذه القضايا لا ينقلها من الخاص إلى العام فحسب، بل يزجّ بها في ساحة لا ترحم، حيث يُعاد تشكيل الأحكام خارج قاعات القضاء، وعلى غير أساس من المعرفة أو التخصص أو العدالة.
إن الخطر لا يكمن في نشر القصة الواحدة، بل في تراكم النشر، واعتياد الناس على هذه التفاصيل، حتى يغدو ما كان يوماً صادماً شيئاً مألوفاً لا يستوقف الضمير. وهنا يتسلل "التطبيع الأخلاقي” في صمت، فيعيد تشكيل الوعي الجماعي بما هو مقبول وما هو منبوذ.
لا بد أن ندرك أن الخصوصية ليست امتيازًا، بل حقاً إنسانياً أصيلاً، وأن حفظها ليس مجرد التزام قانوني، بل موقفاً أخلاقياً يحترم هشاشة الإنسان في لحظاته الأكثر ضعفًا، والكلمة - حين تتجاوز هذا الحق - لا تعود أداة تعبير، بل تصبح أداة كشف جارح، أو ضغط غير مشروع، أو حكم سابق للعدالة.
وإن كان الإعلام مسؤولاً عن ضبط معاييره، فإن المسؤولية تمتد كذلك إلى المشتغلين في الحقول القانونية والاجتماعية، وإلى كل من يملك منصة أو رأيًا أو قدرة على التأثير، فليس كل ما يُعرف يُقال، وليس كل ما يُقال يُنشر، وليس كل ما يُنشر يُحلّ.
أما المحامي، أو الصحفي، أو من يملك ملفات القضايا، فهؤلاء ليسوا فقط شهوداً على القضايا، بل شركاء في طريقة تقديمها للرأي العام، وحملة أمانة أمام الله والمجتمع، فمن اختار أن يتعامل مع قضايا الناس، فقد اختار أن يكون مسؤولاً عن أثر الكلمة، ومسار العدالة، وسكينة المجتمع.
همسة
ليست المسؤولية حكراً على من يكتب أو ينشر، بل تمتد لتشملنا جميعاً نحن المتلقين، فإن طريقة تداولنا لمثل هذه القضايا، وتعليقاتنا عليها، وإعادة نشرها، إما أن تكون مشاركة في انتهاك الخصوصية، أو وقفة وعي تحفظ الكرامة، فلنختر الكلمة التي لا تَجرح، ولنُحجم عن النشر الذي لا يَرحم، ولنتذكّر دوماً أن العدالة تبدأ أحياناً من الصمت النبيل.