في الأمس القريب كان عالم الكريبتو العملات الرقمية محاطاً بالريبة وعدم اليقين حيث كان يُنظر إليه كمغامرة إلكترونية خاضها أفراد مغامرون لا مؤسسات ولا دول، وبـدلاً من أن يكون قطاعاً منظماً وُصف بالوهم والفقاعة التي قد تنفجر في أي لحظة، واليوم نقف أمام واقع مغاير تماماً، واقع صنعته التحولات الكبرى في السياسات المالية وعلى رأسها الولايات المتحدة التي أدخلت بعد وصول الرئيس دونالد ترامب التشريعات التي جعلت العملات الرقمية جزءاً من الاحتياطي الاستراتيجي للخزانة.

ولم يتوقف الأمر هنا، فقد دخلت كبرى الشركات العالمية وصناديق الاستثمار السيادية بقوة إلى هذا السوق، وصارت هي اللاعب الأبرز في ضبط إيقاع حركة العملات الرقمية، فالسوق اليوم يدار من قبل مؤسسات مالية ضخمة تمتلك أدوات إدارة مالية متقدمة، فتغير ميزان القوة بشكل جذري، فمن كان يملك الملايين بات اليوم مجرد متفرج أمام من يملك المليارات.

ولعل أبرز الأمثلة في هذا السياق ما قامت به شركة بلاك روك العملاقة التي دشنت صندوق ETF للبتكوين مما أعطى شرعية مؤسسية لهذا السوق، فضلاً عن دخول صناديق سيادية مثل صندوق الثروة في سنغافورة والنرويج في استثمارات مرتبطة بالبلوكشين والعملات الرقمية، وهذا يدل على أن السوق صار يُدار بمعرفة عملاقة وليس همواً فردياً.

وفي منطقتنا برزت الإمارات باعتبارها الرائدة حيث نجحت في الجمع بين أهداف التبني الطموح والتشريعات الواضحة عبر جهات مثل هيئة تنظيم الأصول الافتراضية ونطاقات حرة استثمارية مثل ADGM وDIFC، كما فتحت أبواب الاقتصاد الرقمي في مجالات مثل العقارات والطيران حيث بات من الممكن دفع جزء من قيمة العقارات أو حجز الرحلات بالعملات الرقمية، ما جعلها مركزاً إقليمياً جاذباً في هذا المجال.

أما المملكة العربية السعودية فقد خطت خطوات نوعية في هذا المجال عبر استكشاف تطبيقات البلوكشين والعملات الرقمية المؤسسية، حيث تعاونت مع دولة الإمارات في مشروع «عابر» لتطوير عملة رقمية مركزية مشتركة لتسوية المدفوعات عبر الحدود، وهو مشروع يُعد من التجارب الرائدة على مستوى العالم في مجال العملات الرقمية للبنوك المركزية، ويعكس الرؤية المستقبلية للمملكة في تعزيز مكانتها كمركز مالي إقليمي قادر على مواكبة التحولات العالمية.

وهنا يبرز السؤال المشروع هل نكتفي في مملكة البحرين بالمراقبة والمتابعة أم آن الأوان لأن تنضم صناديق التقاعد واحتياطي الأجيال وصناديق فائض التأمين إلى هذا المشهد، فقد دخلت دول كثيرة هذا المجال بصمت قبل سنوات حينما كانت الأسعار في بداياتها واليوم تجني ثمار رؤيتها البعيدة.

أنا لست خبيراً مالياً أو اقتصادياً، غير أنني أتابع هذا العالم منذ سنوات، وألمس حجم التحول فيه، وأقول بصراحة إن مملكة البحرين بحاجة إلى أن يكون لها موقعها في هذا المشهد ليس فقط كاستثمار مالي، بل كمجال تعليمي ومهني جديد، نحن بحاجة إلى تخصصات أكاديمية تهيئ شبابنا للعمل في تقنيات البلوكشين والذكاء الاصطناعي المالي وبحاجة إلى مؤسسات تُدير وتُدرّب وتُراقب لضمان أن دخولنا هذا السوق لن يكون مجرد مغامرة بل استراتيجية اقتصادية وطنية.

العملات الرقمية لم تعد وهماً، وإنما واقع يفرض نفسه، وعلينا أن نحجز مكاننا في الصفوف الأولى حتى نكون جزءاً من صناعة المستقبل لا مجرد متفرجين.