سلمان ناصر


في كثير من المجتمعات العربية ودول العالم الثالث، لم تعد القوة الحقيقية تقاس فقط بالقدرة العسكرية أو الاقتصادية، بل بمدى التحكم في وعي الناس وصياغة إدراكهم لما يحدث حولهم. فالإعلام، بأشكاله المختلفة، لم يعد مجرد ناقل للخبر، بل أداة فعالة لإعادة إنتاج القبول الشعبي بما يُطرح من سياسات وخيارات، حتى وإن كانت الفجوة بين الخطاب والواقع واسعة.

يُعاد تدوير كلمات كبرى مثل الإصلاح، التنمية، محاربة الفساد، وتمكين الشباب. لكنها كثيراً ما تبقى في مستوى الشعار، دون أن تتحول إلى ممارسة ملموسة يشعر بها الشخص على مستوى العالم في حياته اليومية. فالإصلاح الذي يرفع كشعار ينبغي أن يقترن بتوسيع المشاركة الشعبية في صنع القرار، والتنمية التي تُبشر بها لا بد أن تُترجم إلى تحسن في معيشة صغار التجار وأبناء الطبقة الوسطى، لا أن تظل حبيسة الأرقام والمؤشرات الدولية. وهنا يصبح الفرق واضحاً بين الإصلاح في الخطاب والإصلاح في الواقع، حيث يُسوَّق الأول لإنتاج صورة مشرقة، بينما الثاني يتطلب تغييرات عميقة في البنى التشريعية والمؤسساتية.

الأنماط المتكررة في هذه المجتمعات تكشف اعتماداً على معادلة مألوفة: ضخ متواصل للإنجازات في وسائل الإعلام، يقابله تهميش للأصوات النقدية أو وصمها بأنها تهديد للاستقرار. وبذلك تُرسم حدود النقاش العام مسبقاً: النجاح لا يُناقش إلا كحقيقة ثابتة، والملاحظات النقدية يُعاد تأطيرها كمعارضة غير بناءة. وهكذا يُصنع القبول، ويُقاد الناس إلى الاقتناع أن ما يُعرض أمامهم هو الواقع الوحيد الممكن، بينما البدائل إما أوهام أو تهديدات.

ويتجلى ذلك بوضوح في الجانب الاقتصادي، حيث تُعرض الخطط الطموحة والمشروعات الكبرى والاستراتيجيات الطويلة المدى كقصص نجاح، بينما يعاني صغار التجار وأصحاب الدخل المحدود من تحديات يومية لا تجد حلولاً ملموسة. السؤال هنا ليس في إنكار وجود إنجازات، بل في ما إذا كانت الأرقام تُستخدم كأداة لتسويق الازدهار أكثر مما هي وسيلة لتقييم صادق للسياسات.

القضية إذن ليست رفضاً لكل ما تحقق، بل دعوة للتمييز بين الإنجاز الحقيقي والإنجاز المصنوع إعلامياً. فالمجتمع الذي يُدار فيه الخطاب والصورة بدقة قد يبدو متماسكاً للوهلة الأولى، لكنه يبقى معرضاً لأسئلة مؤجلة حول العدالة والمشاركة والشفافية.

حجر الزاويةإن حجر الزاوية في مسار التنمية والنهضة في هذه المجتمعات يكمن في الإيمان بأن الاستقرار لا يتحقق بمجرد صناعة الرضا، بل عبر بناء الثقة المتبادلة بين المواطن والدولة حول العالم، وضمان وصول المعلومة الصحيحة، وإتاحة النقد البناء دون خوف، وإشراك الناس بفاعلية في صياغة القرار. فحين تُوضع العدالة والمشاركة في قلب أي مشروع يمس أي بلد، يصبح الاستقرار حقيقياً لا شكلياً، ويغدو المستقبل أكثر رسوخاً من أي صورة مصنوعة تُسوَّق للحاضر حول العالم.