في كل نظام بيئي، سواء أكان سياسياً أو بيئياً، تبرز لحظات فارقة تتطلب نقل المجتمع من حالة الفطرة إلى حالة الإدارة، ومن العرف إلى القانون.
ولعل قرار المجلس الأعلى للبيئة بشأن تنظيم ترخيص الصياد البحريني يمثل هذه اللحظة المفصلية في سياق إدارة الثروة البحرية الوطنية.
لقد ظل البحر، لقرون، شريكاً في صياغة الهوية البحرينية، والمهنة التي مارسها الأجداد لم تكن مجرد وسيلة رزق، بل طقساً وجودياً يُشكّل بنية الذاكرة الجماعية.
ومع ذلك، فإن استمرار هذا الإرث في ظل ضغط الحداثة لا يمكن أن يكون إلا من خلال أدوات معاصرة تحمي المورد دون أن تُقصي الإنسان.
المجلس الأعلى للبيئة، وهو مؤسسة سيادية ذات بُعد بيئي واستراتيجي، لم يأتِ بقراراته من فراغ.
بل يستند إلى قناعة متراكمة بأن الثروة لا تُدار بالعاطفة، بل بالحكمة؛ وبأن حق الصياد في البحر لا يُنتقص، لكنه يحتاج إلى ضوابط تضمن بقاء البحر حياً، والمهنة مستدامة.
- التوازن بين الحق والواجب: في فلسفة الإدارة البيئية الحديثة، لا يُفهم الحق بمعزل عن الواجب. تنظيم ترخيص الصياد البحريني ليس تقييداً لحرية الفرد، بل هو إعادة تعريف لموقعه داخل سلسلة التوازن البيئي.
فحين يُربط الحق القانوني بجملة من الاشتراطات العمرية، والمهنية، والتعاقدية، فإن ذلك لا يعكس فقط النزعة التنظيمية، بل يُؤسس لعلاقة عقلانية بين الإنسان والموارد.
هذا التوجّه لا يختلف في جوهره عما تنادي به أجندة التنمية المستدامة الأممية 2030، ولا عن البروتوكولات الدولية في الحفاظ على التنوع البيولوجي وحماية النظم الساحلية.
البحرين هنا لا تسير في عزلة، بل تُزاوج بين تراثها البحري العريق، ومتطلبات الدولة الحديثة المتصلة بشبكة من التزاماتها البيئية والدولية.
- استراتيجية بيئية: ما يجري لا يمكن قراءته كقرار إداري فحسب، بل كأداة هندسة اجتماعية تهدف إلى ضبط إيقاع العلاقة بين المواطن والموارد.
هذه ليست فقط مسألة رخصة أو رقم تسلسلي، بل مشروع لتحديث مفهوم العمل البحري، وتحريره من العشوائية، وربطه بجهاز دولة قادر على المتابعة والتخطيط والتدخل.
وإذا كان المواطن الصياد هو الطرف المباشر في هذا القرار، فإن الطرف الأعمق هو أجيال المستقبل التي ستُولد في ظل معادلة بحرية جديدة، تُوازن بين الحق في الاستغلال والواجب في الحماية.
- حجر الزاوية: في المجتمعات الصغيرة، كما في الدول الكبرى، لا تقوم الاستدامة على الموارد فقط، بل على قدرة الدولة على تنظيم العلاقة بين الناس والبيئة.
ومن هنا، فإن ما يقوم به المجلس الأعلى للبيئة ليس فقط تنظيماً لقطاع الصيد، بل هو ترسيخ لمبدأ سيادي: أن الدولة مسؤولة عن المورد، كما هي مسؤولة عن المواطن.
الترخيص ليس نهاية الحرية، بل بدايتها الحقيقية: الحرية المنظمة، المسؤولة، المتصلة بالمصلحة العامة لا بالنزعة الفردية.
والبحرين -عبر هذا القرار- تُبرهن أنها دخلت مرحلة جديدة من التفكير البيئي: مرحلة لا تساوي بين الاستغلال والتنمية، بل تضع الاستدامة كحجر الزاوية في كل ما يخص البيئة.. والبحر.. والإنسان.