عندما لاحظت الأمر أول مرة أعجبني، وكان أشبه بالخيال العلمي، فكيف أتحدث مع أحد الأصدقاء عن أحد المطاعم في دولة أخرى، وبعد دقائق أفتح هاتفي لأقلب صفحات فيس بوك فأجد إعلاناً عن فرع للمطعم في البحرين ويحدد لي عدد الكيلومترات التي يبعدها عني! عندها شعرت أننا نعيش في المستقبل، أما الهاتف فكبر في نظري، إنه أكثر من جهاز فهو يشعر بي ويفهمني.
هذا الإعجاب لم يدم طويلاً فالموضوع زاد عن حده، وما أن نتكلم في أي موضوع -مع كون الهاتف في وضع السكون- أو حتى نرسل شيئاً في «واتس اب» أو نجري بحثاً سريعاً عن شيء نهتم به أو نحتاجه أو لمجرد إشباع الفضول، كحديثنا أو بحثنا على سبيل المثال عن الميزان المستخدم لقياس وزن حقائب السفر، إلا وغصت مواقع التواصل الاجتماعي التي نتصفحها بإعلانات عن أنواع كثيرة من موازين حقائب السفر، فقد قرر الهاتف فجأة أني بحاجة ملحة لشراء واحد منها، ويدعوني لإجراء خطوة بسيطة لأحصل على واحد، وهنا ومع التكرار المزعج لكل سلعة وأي سلعة، تحول الإعجاب بالتناغم بيني وبين هاتفي إلى سوء فهم دائم ومستمر، لأنه باختصار يسمعني ولا يفهمني، يركز على الكلمات دون فهم لسياق الكلام.
قبل أيام وأنا أحدّث أحدهم عن إعجابي بإحدى بواخر «كروز» السياحية عندما مررت بالقرب منها، فوجدت هاتفي بعد دقائق وقد قرر نيابة عني البحث عن حجز في إحداها وبدأ يكرر الإعلانات معتبراً أن ميزانيتي تسمح برحلة مثل هذه وأني بحاجة بالفعل إلى هذا النوع من الرحلات، ومنذ ذلك الحين وإعلانات الرحلات السياحية على كروز تطاردني في كل المنصات، الأمر ليس سحراً وكلنا يعرف أنها الخوارزميات التي تعمل بها الإعلانات الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي وتدعمها الأجهزة الذكية، ولكن ماذا لو فكرت هذه الخوارزميات بإلقاء نظرة على رصيدي البنكي، أو اطلعت على القرض الذي لم يسدد بعد، هل يا ترى ستستمر في عرض كل أنواع الاستهلاك عليّ، أم ستبدأ بالإدراك وتتوقف؟!
من يدري، ربما إذا أدركت ستتحول العروض من رحلات وبضائع إلى إعلانات قروض البنوك لتسديد القروض الحالية والانتقال إلى قروض جديدة! في الواقع لا جدوى من محاولات التخلص من شركائنا الرقميين الجُدد، وعلينا تقبلهم في حياتنا سواء كانوا فضوليين أم يسمعون ولا يفهمون، فهذا هو الواقع وهذه هي التكنولوجيا، فمع الفوائد العظيمة لابد من سلبيات مصاحبة، ولعليّ أوظفها لأعيش حياة الأثرياء فأتعمد الحديث أمام جهازي عن حاجتي لشراء جزيرة صغيرة أو يخت فاخر، وأستمتع بتلقي العروض، وأغلق بعدها هاتفي، وأنا أقول: لم أجد ما هو مناسب لي.
* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية