نكتب كثيراً عن الذكاء الاصطناعي، حتى امتلأت به الصفحات، وكأننا نتذوّق قهوة جديدة كل يوم. لكن خلف هذه اللمعة طبقة لا تُرى بالعين، ولو غابت صار كل ذلك «فُل أوف لاين»: الأمن السيبراني. السؤال لم يعد من يملك أقوى تقنية، بل من يغلق الباب الخلفي قبل أن يُفتح.
في أغسطس السابق، استضافت البحرين تمريناً وطنياً واسعاً للأمن السيبراني تحت رعاية سمو الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة، وبإشراف المركز الوطني للأمن السيبراني: «درع السايبر 2025 (2025 Cyber Shield)». الفكرة ذكية وبسيطة: محاكاة هجمات على «سلسلة الإمداد» بدل الطرق المباشرة؛ تحديث صغير، مزوّد طرف ثالث، مرفق «بريء».. ثم تتدحرج الكرة. شاركت جهات حكومية وقطاعات حيوية من مال وصحّة وطاقة واتصالات وتعليم ونقل، ليس استعراضاً للشاشات، بل اختباراً عملياً لثلاثية الحقيقة: من يكتشف أولاً؟ من ينسّق أسرع؟ وأين الثقوب التي نحتاج إلى سدّها أمس قبل اليوم؟
يشبه الأمر «تمارين الإخلاء» من الحريق: لا أحد يتمنى النار، لكنك تحفظ الطريق، وتعرف من يمسك الباب ومن يتصل. في النسخة الرقمية تتعلّم المؤسسات ترتيب المكالمات، لا الكلمات: كيف نبلّغ؟ متى نعزل الشبكة؟ من يملك صلاحية قطع الخدمة؟ ثم تخرج بورقة «واجب بيت»: شدّد المصادقة، راجع الصلاحيات، حدّث الأنظمة، درّب الفريق، وأغلق الثغرات التي ظهرت في التمرين بدل انتظار ظهورها في الأخبار.
أهمية هذا كله وطنية قبل أن تكون تقنية. حين تبني الدولة قدرات ذكاءٍ تعمل محلياً وتُخزَّن بياناتها محلياً، فإن «الذكاء السيادي» يحتاج ظهراً يحميه: «أمناً سيادياً» مُجرَّباً في بيئتنا. الرعاية المباشرة من سمو الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة تعني أن الملف ليس هامشيًا؛ هو أولوية أمن وطني، تعزّز ثقة الناس بالخدمات، وتُطمئن المستثمر والقطاع الخاص والمدرسة والعيادة والبلدية أنّ انقطاع «السيستم» لن يعطّل الحياة.
الأمن السيبراني يبدأ من تفاصيل صغيرة قبل أن يصبح خططاً كبيرة. عند الأفراد، يكفي أن نختار كلمات مرور معقولة بدل «123456»، نفعّل المصادقة الثنائية، نحدّث أجهزتنا في وقتها، ونشكّ في أي رابط أو فاتورة غريبة. في المؤسسات، الصورة أكبر: تدريبات دورية وتمارين طاولة تحاكي الأعطال قبل أن تقع، وأسئلة واضحة مثل: لو تعطّل النظام الآن، كم دقيقة نحتاج لنعود؟ ومن يعرف دوره؟ أما المختصون، فدورهم أبعد من ذلك: بناء استخبارات تهديدات محلية، مشاركة المؤشرات مع بقية الجهات، والتأكد أن الأمن يسير جنباً إلى جنب مع التحوّل الرقمي بلا تعطيل للخدمات.
الأجمل أن تصبح بعض الهجمات هي الأخرى غير متاحة عندنا. عندها تكتمل المعادلة: ابتكار يلمع.. وبوّابة محكمة تحرس. والخلاصة أنّ أي تكنولوجيا بلا أمن تبقى ناقصة؛ الأمن هو ما يجعلها مطمئنة وقابلة للاندماج في حياتنا اليومية، وبمثل هذه التمارين، وتلك الرعاية، يصبح الطريق أكثر أماناً وجزءاً ثابتاً من واقعنا.
* خبير تقني