في سنة 2011 كان العالم يعيش أحداثاً صعبة، فالدول العربية اجتاحتها موجة ما عرف «بالربيع العربي» التي تنوعت في واقعها ما بين أحداث شغب وتخريب في مكان وثورة في مكان آخر واحتجاجات في غيرها من الأماكن، أما دول أوروبا فاجتاحتها أزمات ديون سيادية، وفي أمريكا حصل تباطؤ في النمو الاقتصادي، وعلى أساس كل ذلك عقدت عشرات المؤتمرات التي تناقش تلك الأحداث، وألفت كتب توثق تاريخ ما جرى، لكن مع كل ذلك عدد غير قليل من أفراد العالم انشغل في تلك الفترة بصورة التقطت لقطة متجهمة عابسة باستمرار عرفت بالقطة الغاضبة، وما هي إلا أسابيع قليلة، وتحولت فيها هذه القطة إلى أكثر من مجرد صورة، فأصبحت أيقونة عالمية، غزت واجهة المجلات، الحديث في ذلك الوقت عن هذه القطة قد يبدو لأول وهلة أمراً تافهاً، أو نكتة استغرقت وقتاً أطول من اللازم، لكن الأمر في واقعه أبعد من ذلك فهذه الصورة أوجدت لغة مشتركة بين البشر، لغة يفهمها شخص في أستراليا كما يفهمها آخر في مصر.
في الواقع هذه الصورة أسست لآلية جديدة ومعقدة لتشكيل الذاكرة الجمعية للجيل الحالي، فلم يتذكر أحد ما جرى في المؤتمرات وما كتب عنها في تلك الفترة، لكن الصورة ما زالت أيقونة تعبر عن المشاعر، والتاريخ الذي كان يصنع بأحداث وخطب، ومحاضر اجتماعات، وتوثيقه حكر على المؤرخين، لم يعد كذلك، فصورة يركبها شاب صغير في هاتفه، ويضع عليها عبارة مختزلة كفيلة بتوثيق مرحلة كاملة، لحظات قليلة من «الميمز» والترندات الضاحكة تمثل تاريخاً يختصر آلاف الكلمات التي ينظمها مؤرخ، مقطع سريع من مسلسل أو فيلم عرض في السبعينيات تقتطعه شابة صغيرة شاهدته بالصدفة لأول مرة، يحمل في طياته معانٍ كثيرة، كفيل بشرح ماضٍ انتهى قبل خمسين سنة، كلمة يقولها أحدهم لصاحب برنامج على يوتيوب في الشارع تقتطع منه عبارة لا تتجاوز 3 ثوانٍ تشرح ما لا يشرحه كتاب كامل، تريندات جائحة كورونا وحدها كفيلة بشرح ما حدث لأجيال قادمة بطريقة لا يجيدها أفضل المؤرخين.
«الميم» أصبح وحدة ثقافية متكاملة، لكنه عبارة عن كبسولة مضغوطة المعاني، لها قدرة عجيبة على اختزال فكرة معقدة، ونقل مشاعر لا يمكن لشاعر متمكن من نقلها على حقيقتها، مقارنة بين صورتين لسياسيين أو أحداث سياسية بين زمنين تشكل وثيقة تاريخية أبلغ أثراً من الوثيقة الرسمية، أما التريند الذي يتصدر مواقع التواصل الاجتماعي حالياً فهو أشبه بأداة قياس جديدة للرأي العام، فقضايا سياسية أو اجتماعية أو سياسية، تبدأ بهاشتاغ تنتشر كالنار في الهشيم، إنها ذاكرة العالم الجديدة، وهي ذاكرة لا تخلو من عيوب كثيرة، ومن عيوبها السرعة والتقلب وبعضها يدفن بعضاً، ولها القدرة على نقل المجتمع من قضية إلى أخرى بشكل سريع يؤثر على الوعي العام، وهي قابلة للنسيان بسرعة، لكنها توثق تاريخنا الذي لن توثقه الكتب، ولعلنا نتصور كيف سيتعامل المؤرخون معها بعد عشرات السنين؟ لا شك أنهم سيكونون غارقين بين أكوام من صور القطط والممثلين ومقاطع التيك توك، وصور المقارنات والميمز، وسيكونون أمام أرشيف فوضوي لا غنى لهم عنه إذا أرادوا فهم حياتنا كيف كانت وما مررنا به فعلاً، ناهيك عن الفلاتر التي تغطي أرشيف الصور، ولعل التكنولوجيا ستكون عوناً لهم.
* عميد كلية القانون - الجامعة الخليجية