في قلب كل نظام سياسي ناجح، ينبض عقد اجتماعي غير مكتوب: الدولة تعد بالاستقرار والفرص، والمواطن يمنحها الشرعية والطاعة. لكن في أجزاء كثيرة من العالم العربي، هذا العقد لم يعد صلباً كما كان، بل باتت تصدعاته مرئية ومسموعة، وربما قاتلة للثقة.
تتحدث الحكومات بلغة التنمية والتطور، بينما يعيش المواطن يومياتٍ مثقلة بغلاء المعيشة، والبطالة،. ومع مرور الوقت، تتسع الفجوة بين ما يُقال وما يُنجز، ويبدأ المواطن — وخصوصاً الشباب — بالانسحاب من مشهد التصفيق، إلى مساحة الترقب، فالصمت، ثم الشك.
صحيح أن بعض الدول العربية شهدت قفزات اقتصادية، إلا أن هذه النجاحات لم تنعكس بالعدالة نفسها على الجميع. بقي توزيع الفرص محدوداً، وسيطرت المحسوبية على مفاصل التوظيف والتنمية.
المبادرات الطموحة غالباً ما تنتهي في الواجهات الإعلامية، فيما يتم تجاهل الاحتياجات اليومية للمواطن البسيط. في المقابل، يُطلب من المواطن التحمل والصبر، بينما يشاهد الميزانيات تتوجه إلى مشاريع لا يرى أثرها في فرص عمله أو تخفيف أعبائه أو أجره الشهري. جيل موصول بالذاكرة ولا ينسى: لم يعد الشباب العربي جيلاً يمكن تجاوزه أو تهميشه. إنه جيل يُوثّق، ويُحلل، ويُعيد نشر كل وعد ولم يُنفّذ، وكل خطاب فاقد للمصداقية. ذاكرته ليست فردية، بل جماعية رقمية.
ومع تراجع كبت كل من يسلط الضوء على مظاهر القصور، وانكماش المجتمع المدني، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي منصّات مساءلة، لكنها للأسف لا تملك بديلاً... بل تعكس هشاشة الواقع كما هو.
إعادة بناء العقد: الثقة لا تُرمم بالبيانات الصحفية، بل بالشفافية والاعتراف. تحتاج الدول إلى عقد جديد يقوم على الشراكة، لا الوصاية. عقد يعترف بالخلل، لا يُنكره. يفتح أبواب الفرص للجميع، لا للنخبة فقط. يُفعّل العدالة الاجتماعية لا يُجمّلها، ويُطلق طاقات الشباب بدل أن يحاصرها في قوائم الانتظار.
حجر الزاوية: ليست الغاية أن تكون الدولة ثرية فحسب، بل أن يشعر المواطن بأنه شريك حقيقي في هذا الثراء. فالثروات التي لا تُوزّع تتحول إلى عبء سياسي وأخلاقي. والدولة التي تبني مشاريع بلا بشرٍ يشعرون بالانتماء، تبني قصراً زجاجياً في صحراء العطش.
المنطقة لا تحتاج فقط إلى نهضة عمرانية.. بل إلى عقد اجتماعي جديد. عقد لا يُراهن على الصمت، بل على المشاركة. ولا يُقايض الولاء بالوعود، بل يربط الانتماء بالعدالة والنتائج. فالثقة إذا انكسرت، يصعب ترميمها. ولا دول تستقر إن كانت الهوة بينها وبين مواطنيها تتسع كل يوم.