ليس منا من أحد إلا وتعرض لهذا الموقف، تكون في مكان فتواجه أحد الأشخاص الذين تعرفهم، فتكون أمام خيارين، أما أن تبادر بالسلام وتبادله حديثاً عابراً بسرعة، أو أنك لا تريد ذلك، وهنا ستلجأ إلى إشغال نفسك بشيء ما وتظهر نفسك منهمكاً فيه، فإن كنت في بقالة فسيظهر اهتمامك المفاجئ في قراءة تاريخ صلاحية علبة ما، أو تقرأ مكوناتها، وهو ما لا تفعله في العادة، أو أنك سترفع هاتفك إلى أذنك وتحدث نفسك وكأنك في مكالمة مهمة مع آخر، لكن خياراً ثالثاً ظهر مؤخراً يغنيك عن التمثيل، ألا وهو الاستماع إلى «بودكاست»، فسماعة أذن تضعها على رأسك كفيلة بإيقافك عن أي تفاعل اجتماعي.
هذا في الواقع ما نشاهده كثيرا هذه الأيام في الشوارع والأسواق، وربما في الدول الغربية مضاعفاً بمرات، وضع سماعة الأذن على الرأس مشهد أصبح ظاهرة في السنوات الأخيرة، يعطي انطباعاً أن صاحبه مشغول بتطوير نفسه، قد يكون ذلك صحيحاً، لكن في الوقت نفسه انفصال عن العالم المحيط والواقع الذي يعيشه، هي ظاهرة لأن عدد مستمعي البودكاست في العالم تجاوز النصف مليار شخص في هذا العام وحده، وهو عدد يفوق نفوس أمريكا الشمالية، إنها أمة رقمية، تستمع إلى مواد بين الفلسفة وفضائح الفنانين والمشاهير، وكل ذلك يحدث بين الثامنة صباحا والخامسة مساء، أي في أوقات الذروة، وهي ذات الأوقات التي كنا نتبادل فيها الأحاديث السريعة والعابرة مع زملائنا ومن نلتقيهم في السوق والشارع ووسائط النقل الجماعية، وجود سماعة الرأس محيطة بأذن أحدهم، أصبحت بمثابة الورقة ذات الفتحة الدائرية التي نجدها معلقة على مقبض باب الفندق من الداخل مكتوب عليها (الرجاء عدم الإزعاج) لا سيما عندما ننقلها إلى الجهة الثانية من المقبض، فهي بمثابة إعلان منا عن غيابنا ذهنيا في لحظة حضور جسدي، فنحن في سوق يعج بالمارة وضجيجهم، لكننا لا نسمع إلا صوت مقدم البرنامج وهو يحلل عبارة فلسفية، أو يتحدث عن خيانة لاعب كرة قدم لخطيبته، وحتى لو شاهدنا أحد واقتحم علينا هذه الخلوة، فالعذر موجود وجاهز، وهو: (معذرة كنت مندمج مع بودكاست مهم).
مزايا كثيرة لهذه الظاهرة، ترافقها تكلفة باهظة، تتمثل بالمخاطرة في فقدان المعرفة التي نحصل عليها من التواصل مع محيطنا الاجتماعي، فلا ضحكات مشتركة على موقف مشترك، ولا معلومة إضافية من مدرسة المجتمع، نحن بذلك نكون «غير متاحين» للتواصل مع الآخرين، والواجب علينا أن نسأل أنفسنا ونحن نهم بوضع هذه السماعة على رؤوسنا، ما الذي نبحث عنه خلال الدقائق أو الساعات القادمة، هل هو الترفيه أم المعرفة، أم حاجز وفاصل بيننا وبين محيطنا الاجتماعي؟
* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية