كنت أسير قبل أيام في سوق المحرق، أتأمل الرافعات والعمّال، وهم يرمّمون الجدران، ويعيدون للحجر لونه الأول بعد أن أكلته الشمس والملح. في كل زاوية مشروع، وفي كل فرجانٍ ذاكرة تُبعث من جديد. وجوه الناس القديمة تعود إلى محلاتها الصغيرة، ورائحة القهوة تفوح من الأزقة الضيقة، بينما صوت المطرقة من بعيد يذكّرني أن الزمن يتبدّل، لكن الذكريات تأبى الرحيل. المدينة تبدو كأنها تستيقظ بعد غفوة طويلة؛ تتنفس من جديد، وتفتح عينيها على ماضٍ لا يريد أن يُطوى. وحين تمشي بين تلك الأزقة، تدرك أن ما يجري ليس مجرّد أعمال بناء، بل هو حوارٌ صامت بين الحجارة والذاكرة، بين جهد الحاضر وحنين الماضي، بين من يشيّد للمستقبل ومن يحرس الجذور في عمق الأرض. إنها محاولات صادقة للحفاظ على ذاكرة وطن، تُزرع من جديد في قلب الأجيال القادمة.
وأنا أمشي بين الفرجان المتشابكة، لمحت جداراً حديث الطلاء بجانب آخر يحمل تشققات الزمن، فتذكّرت المدرسة القديمة التي كنا نذهب إليها مشياً على الأقدام، نحمل حقائبنا الثقيلة، ونعدّ الخطوات بين بيتٍ وآخر حتى نصل. كانت الأزقة ضيقة، لكنها مليئة بالحياة؛ نعرف كل وجه وكل باب، وكل نافذة تراقبنا ونحن نضحك ونتجادل. لم يكن التعليم وقتها شاشة أو اتصالاً رقمياً، بل حكاية يومية تُروى على الطريق، تبدأ من رائحة خبز الطاوة وتنتهي بصوت الجرس.
اليوم، حين أنظر إلى أبنائي، أراهم يعيشون واقعاً مختلفاً عن زمننا، لكنه لا ينفصل عنه تماماً. ما زالوا يذهبون إلى مدارسهم كل صباح، يحملون حقائبهم ويصطفّون في الطابور، والضحكات تملأ الساحات كما كانت. السبّورة ما زالت في مكانها، وإن تغيّر شكلها؛ أحياناً شاشة ذكية، وأحياناً سبّورة بيضاء تقليدية. المعلم لا يزال حاضراً بروحه ونبرته، لكن في يده جهازاً لوحياً بدل دفتر التحضير. تغيّر التعليم مظهراً، لكنه لم يفقد جوهره. أما الحصص عن بُعد، فقد صارت وسيلة للمراجعة أو للتأكد من الجاهزية، لا بديلاً عن المدرسة. ومع كل هذه التحديثات، ما زالت تلك الفوضى الجميلة في الممرات والضحكات في الفسحة تمنح اليوم الدراسي نكهته الخاصة، وتذكّرنا أن المدرسة ستبقى أكثر من مجرد شاشة أو منهج إلكتروني.
الفرق بين جيل الطباشير وجيل التابلت ليس في الأدوات فقط، بل في العلاقة مع المعرفة نفسها. جيلنا كان يبحث عن المعلومة في كتاب، يتصفح الصفحات، يتأمل الصور، ويتوقف عند الفقرة التي يفهمها نصف فهم، ليكملها بسؤالٍ أو تجربة. أما اليوم فالمعلومة تأتي جاهزة، مختصرة، بلا جهد، كوجبة سريعة. صارت المعرفة تُستهلك كما يُستهلك المحتوى على الإنترنت: بسرعة.. ونسيان بعدها بدقائق.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن أبناء اليوم يملكون ما لم نملكه نحن. يتعلمون بلغات عدة، ويستكشفون العالم من خلال شاشاتهم، ويتواصلون مع زملاء في دول أخرى بضغطة زر. لكنّ التحدي الحقيقي هو أن نحافظ على توازنٍ يجعل التقنية وسيلة لا بديلاً، وأن نعلّم أبناءنا كيف يستخدمونها دون أن تفقدهم شغف الاكتشاف. فالتعليم لا يعيش في الأجهزة، بل في العقول التي تعرف كيف تسأل، وفي القلوب التي تفرح بالفهم الحقيقي لا بالدرجة العالية فقط.
وأنا أغادر سوق المحرق، رفعت نظري إلى المآذن القديمة التي تصافح السماء، وشعرت أن المدينة تشبهنا تماماً: تتجمّل بالجديد لكنها لا تتبرأ من القديم. ربما على التعليم أن يتعلّم من المدن العريقة؛ أن يتطوّر دون أن ينسى جذوره. فجيل الطباشير رغم بساطته كان يعرف قيمة السؤال، وجيل التابلت رغم سرعته ما زال يبحث عن معنى الإجابة. وبينهما نحن، نحاول أن نربط الحاضر بالماضي بخيطٍ من الحنين، كي لا ننسى من أين بدأنا، ولا إلى أين نمضي.* خبير تقني