لم يعد الحديث عن إدمان الإنترنت والمراهقين مجرد تحذير يقال في البرامج التربوية أو المقالات التوعوية، بل أصبح واقعاً يعيشه كثير من الآباء يومياً، وأنا واحد منهم. لم أقرأ عنها في تقرير، ولم أسمعها من أحد، بل أعيشها في بيتي، بين أطفالي الذين يعيشون نشوة حقيقية كلما اتصلوا بالشبكة، كأنها جرعة رقمية تمنحهم سعادة مؤقتة، يتحول انقطاعها إلى حرمان وقلق وتوتر لا يطاق.

قبل أيام انقطعت خدمة الإنترنت في منزلي، شركة الاتصالات مشكورة قطعتها؛ لأنني نسيت دفع الفاتورة، رغم أنني لا أتأخر عن السداد. لا بأس، فسنوات التعامل الطويلة لا تشفع لنسيان بسيط، لكن هذا ليس موضوعنا.

ما إن انقطع الاتصال حتى انهالت عليّ الاتصالات من أبنائي يسألون عن سبب توقف الواي فاي وتعطل الألعاب والأجهزة اللوحية. حاولت تهدئتهم قائلاً إنني سأرى الأمر عند عودتي إلى المنزل.

لكن ما إن وصلت حتى تكررت الأسئلة نفسها بالنبرة المستغيثة ذاتها. أجبتهم أن الخدمة انقطعت لأني لم أدفع الفاتورة، فانهالت أسئلة جديدة عن السبب والموعد الذي سأدفع فيه. عندها قررت ألا أسدد لبضعة أيام لأرى ما سيحدث.

فاكتشفت مشهداً صادماً، مجموعة من الصغار لا يعرفون كيف يملؤون أوقاتهم، وكأن اليوم صار أطول من المعتاد. عاد الصراخ والمشاجرات والركض في أرجاء البيت كما كنا نفعل نحن في طفولتنا القديمة. وفي اليوم التالي تكرر السؤال نفسه متى سيعود الإنترنت. حتى إنهم تنازلوا عن طلباتهم المعتادة مثل الوجبات المفضلة والمصروف اليومي مقابل أن أدفع الفاتورة.

جلست بعدها أتساءل مع نفسي هل أخطأت حين وفرت لهم كل هذه الوسائل التي صارت تعد من أساسيات الحياة الحديثة. هل حرمتهم من طفولتهم الطبيعية التي عشناها نحن، يوم كانت الكرة والشارع والخيال هي مساحة اللعب. نعم، لكل زمن أدواته وكمالياته، لكن الحقيقة المرة أننا حرمنا أبناءنا من واقعهم حين سلمناهم لشاشات تشغلهم لا لفراغ في وقتهم، بل لفراغ في وقتنا نحن.

لقد تصرفنا بأنانية حين وجدنا في الأجهزة وسيلة لإسكاتهم وتوفير الهدوء لأنفسنا، ولم نفكر أن هذا الهدوء قد يزرع فيهم عزلة وانفصالاً عن الواقع.

ولن ألقي باللوم على أي جهة رسمية أو شركة تكنولوجيا، بل على أنفسنا نحن أولياء الأمور؛ لأننا تركنا أبناءنا في عالم افتراضي بلا حدود. فالمسؤولية اليوم أسرية قبل أن تكون قانونية، أن نضع نحن الضوابط، متى يستخدمون، وكم يستخدمون، وكيف يستخدمون.

إن أبناءنا لا يحتاجون إلى إنترنت أسرع، بل إلى آباء وأمهات أبطأ في اللهاث خلف الحياة، أقرب إليهم من أي إشارة «واي فاي»، ليعلّموهم كيف يعيشون في العالم الحقيقي لا خلف الشاشة.