في الدول التي تتقدم بخطى ثابتة نحو الإصلاح، لا تكفي القوانين كي تبني الثقة، ولا تكفي الخطابات كي تصنع الشفافية. فالحكومات لا تُقاس بعدد المراسيم التي تصدرها، بل بقدرتها على تحويلها إلى ممارسة يومية تُرى وتُحاسب.
في تلك الدول التي اختارت طريق الإصلاح مبكراً، ووضعت الشفافية في صلب خطابها السياسي، صار السؤال اليوم أعمق من النصوص: إلى أي مدى أصبحت الشفافية ثقافةً لا إجراءً؟
الإرادة السياسية في تطبيق الشفافية لا تُقاس بعدد البيانات المنشورة، بل بمدى استقلال المؤسسات التي تراقبها. فحين تصبح المعلومة متاحة للمواطن دون انتظار تصريح أو إذن، يتحول الحق إلى ممارسة. وحين يُمنح الصحفي والبرلماني أدوات الوصول إلى الحقيقة، تصبح الشفافية سياسة دولة لا مبادرة مؤقتة.
ومع ذلك، ما زالت بعض الإدارات تتعامل مع المعلومة كـملف حساس، وكأن الحق في المعرفة خطر يجب ضبطه، لا ضمانة يجب صونها.
- الفجوة بين النصّ والتنفيذ:
الشفافية لا تُختبر في المؤتمرات، بل في التفاصيل اليومية. حين يُعلن عن تقارير الأداء المالي، ولا تُُقر في وقتها، أو تُنشر أرقام بلا تفسير، يفقد المواطن ثقته ببطء. فالقانون الذي لا يُمارس يصبح مثل مرآة مغطاة بالغبار: موجودة، لكنها لا تعكس الحقيقة.
في المقابل، حين تُصبح البيانات مفتوحة، ويُحاسَب المسؤول قبل أن يُسأل، تبدأ دورة جديدة من الإدارة الرشيدة تُبنى على وضوح لا تخاف الضوء.
- الشفافية والاقتصاد:
ليست الشفافية مسألة سياسية فحسب، بل ركن اقتصادي. فالمستثمر لا يبحث فقط عن تسهيلات، بل عن وضوح: أين تذهب الأموال؟ كيف تُدار العقود؟ من يُراقب المناقصات؟ فكل خطوة تُعلن، تُخفض كلفة الشك، وتزيد قيمة الثقة.
الدولة التي تجعل الإفصاح عادة، تُغري الاستثمار قبل أن تقدّم الحوافز، لأنها تعلن أنها لا تخفي شيئاً.
في النهاية، لا يمكن لأي حكومة أن تمارس الشفافية وحدها. فالمواطن شريك في الرقابة، والصحافة شريك في التوضيح، والمجتمع المدني مرآة نزيهة للنوايا والسياسات.
الشفافية تبدأ من الأعلى، لكنها لا تكتمل إلا حين تصل إلى المواطن العادي الذي يرفض الصمت أمام الغموض.
حجر الزاوية
الشفافية ليست وثيقة في الأرشيف، بل ثقافة تُبنى بالزمن. فحين تُصبح المعلومة حقاً، والمساءلة عادة، يتحول القانون إلى ضمير إداري حي.
الدولة التي تجرؤ على مواجهة نفسها هي الدولة التي لا يخيفها السؤال، لأنها تعرف أن الحقيقة لا تهددها.. بل تحميها.