تشهد البشرية تحولاً عميقاً في موازين القوة، لم تعد فيه السيادة تعتمد على الحدود الجغرافية أو القدرات العسكرية فقط، بل باتت تُقاس بقدرة الدولة على حماية بيانات مواطنيها والتحكم في برمجياتها التقنية.
ففي عصر الذكاء الاصطناعي، لا يقتصر التحدي على الإنسان كفرد، بل يمتد ليشمل المعلومات التي تمثله، والبرمجيات التي تقيّمه، والمنصات التي تصنع سرديته. وهنا تتجلى معركة السيادة القادمة، حيث يصبح الدفاع عن الإنسان مرهوناً بالدفاع عن بياناته وحقوقه الرقمية.
لم تعد حقوق الإنسان محصورة في ساحات القضاء أو النصوص التشريعية، بل امتدت إلى الأنظمة الذكية التي تُصنع وتُشغل خارج الحدود. فالذكاء الاصطناعي أصبح لاعباً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً قادراً على التأثير في الخصوصية والعدالة والفرص والحريات، وسط غياب منظومات رقابية واضحة على الشركات التقنية العابرة للحدود.
والخطر أن كثيراً من القرارات التي تخص الأفراد تُتخذ عبر برمجيات تتسم بالغموض، ولا تخضع للمساءلة، ولا تُبنى على أطر قانونية رسمية.
وتبرز إشكالية التحيز البرمجي كتحدٍّ جوهري؛ إذ قد تُقصى فئات معينة من فرص وظيفية أو علاجية أو تعليمية بسبب نماذج حسابية غير عادلة أو بيانات غير ممثلة للمجتمع المحلي. فالانتهاك هنا لا يصدر عن نية، بل عن خلل في تصميم النظام، لكنه يبقى قادراً على التأثير في مستقبل الإنسان بشكل مباشر.
ويتجاوز الأمر البعد الفردي إلى بُعد استراتيجي يرتبط بسيادة الدول. فالذكاء الاصطناعي اليوم ليس أداة محايدة، بل وسيلة نفوذ تستخدمها القوى الكبرى لصياغة الوعي، وتوجيه النقاش العام، والسيطرة على البيانات على نطاق عالمي.
والدول التي لا تملك بياناتها ولا تضع تشريعات واضحة لتنظيم الذكاء الاصطناعي، ستجد نفسها أمام تبعية رقمية تمسّ سيادتها وقرارها الوطني.
ومن هنا، تحتاج دول الخليج -ومنها البحرين- إلى تطوير تشريعات وطنية للذكاء الاصطناعي تضمن حماية البيانات الحساسة، وشفافية القرار البرمجي، واستضافة المعلومات داخل الدولة، وصيانة حقوق المرضى والطلاب والعاملين من التصنيفات التقنية غير المنصفة، مع مواءمة التقنيات مع القيم المجتمعية والهوية الوطنية. فالتقنية حين تدخل القطاعات الحيوية تصبح جزءاً من منظومة الأمن الوطني.
حجر الزاوية
إن حجر الزاوية في حماية حقوق الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي لا يكمن في إيقاف التطور، بل في امتلاك شروطه وصياغة حدوده. فالحماية الحقيقية تبدأ من بناء سيادة رقمية مستقلة، وضمان أن تكون البرمجيات أداة لخدمة الإنسان لا للتضييق عليه.
وهنا تبرز مسؤولية الدولة ومؤسسات المجتمع المدني في تحويل مبادئ العدالة والشفافية إلى سياسات تحكم القرار التقني.
ويبقى السؤال الذي يجب أن يبدأ الآن.. قبل أن يُصاغ المستقبل دون مشاركتنا: هل سنترك البرمجيات الرقمية تُعرّف الإنسان.. أم نُعرّفها نحن بما يليق بكرامته؟