منذ فجر التاريخ الاجتماعي للبحرين، ظلّت الأم البحرينية القلب النابض للحياة، وركيزة البيت والمجتمع معاً. في زمن الغوص، حين كان الرجال يرحلون شهوراً في عرض البحر بحثاً عن اللؤلؤ، كانت هي التي تبقى لتواجه الحياة وحدها.

تتحمّل غياب الزوج، وتدير شؤون المنزل، وتربّي أبناءها على الصبر والكرامة والإيمان. كانت اليد التي تمسح التعب، والصوت الذي يُعيد الطمأنينة، والعقل الذي يحفظ التوازن في زمنٍ لم يكن فيه سوى البحر مصدراً للرزق والقلق معاً.

من بين تلك البيوت المتواضعة خرجت الأجيال الأولى التي صنعت هوية البحرين. تعلم الأبناء من أمهاتهم أن الشرف ليس في المال، بل في الكلمة الطيبة والنية الصافية. كانت الأم البحرينية تُنشئ أبناءها على الأخلاق قبل التعليم، وعلى العطاء قبل الأخذ.

فكل ما يُعرف عن البحريني من طيبةٍ وصدقٍ وتعاونٍ، هو امتداد طبيعي لتلك المدرسة الأولى التي كانت الأم فيها المعلّمة، والصبر فيها المنهج، والعطاء فيها أسلوب حياة.

لقد كانت الأم البحرينية أكثر من أمٍّ داخل بيتها، كانت روح الحيّ بأكمله، تعتني بجيرانها كما تعتني بأبنائها، تمد يدها بما تستطيع، وتقدّم ما تقدر عليه من طعامٍ أو نصيحةٍ أو دعاءٍ صادق في بيوتٍ متقاربة المسافات ومتشابهة الهموم، كانت الأمهات ينسجن نسيجاً اجتماعياً فريداً، قوامه المحبة والإيثار، فصار الحيّ عائلةً واحدة، والبحرين بيتاً واحداً.

من تلك الروح الجماعية تشكّلت الشخصية البحرينية التي لا تعرف الأنانية ولا تنسى المعروف.

ومع انطلاق المشروع التنموي الشامل لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم حفظه الله ورعاه، تحوّل هذا الإرث الإنساني إلى مشروع وطني مؤسّس. جاء تأسيس المجلس الأعلى للمرأة عام 2001 برئاسة صاحبة السمو الملكي الأميرة سبيكة بنت إبراهيم آل خليفة قرينة عاهل البلاد المعظم رئيسة المجلس الأعلى للمرأة ليكرّس مكانة المرأة البحرينية ويمنحها الإطار الذي تستحقه، وفق خطط وبرامج الحكومة الموقرة برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء.

واليوم، ومع اقتراب المجلس من يوبيله الفضي، تتجلى مسيرة المرأة البحرينية في أبهى صورها: شريكة في التنمية، وقائدة في مواقع العمل، ومربية تزرع في الأجيال ذات القيم التي حفظت هذا الوطن منذ زمن الغوص وحتى زمن النهضة.

وأنا، كابنٍ لهذه الأرض الطيبة، أفخر في هذا اليوم وكل يوم بأنني ابنُ ربة منزل بحرينية علّمتني أن الكرامة لا تُشترى، وأن خدمة الناس نوع من العبادة. كانت أمي تبذل ما تستطيع لخدمة جيرانها، وتفرح إن رأت الخير عند غيرها أكثر مما تفرح به لنفسها.

علّمتنا أن اليد التي تُعطي لا تفتقر، وأن من يُحب الناس يُحبّه الله. تركت فينا أثرًا لا يُمحى، وغرست فينا حبّ البحرين كحبّ الأم لبيتها والابن لأمه.

انونية التي تدافع عن الحق، والطبيبةٌ تُعيد الأمل للناس كل يوم، وربة المنزل التي تتفرغ لأبنائها، وأفخر بزوجتي المعلمة المربية غارسة القيم في الأجيال، التي تواصل رسالة الأمهات البحرينيات في غرس العلم والقيم في نفوس أبنائنا وبناتنا، كلّ واحدة منهن امتداد لروح أمي، ودليل على أن البحرينية لا تنطفئ مهما تغيّرت الأزمنة، بل تتجدد حضوراً وتأثيراً.

إن الأم البحرينية ستبقى -في كل زمن- الركيزة التي يقوم عليها البيت، والنبض الذي يُحافظ على دفء المجتمع. من زمن الطين إلى زمن المدن الزجاجية، ومن البساطة إلى الازدهار، ظلّت الأم البحرينية رمزًا للثبات والوفاء، وذاكرةً حيّة تختزن كل ما هو جميل في هذا الوطن.

همسة

إلى كل أم بحرينية.. أنتنّ الأصل الذي لا يُستبدل، والضوء الذي لا يخبو. منكنّ تعلّمنا أن الوطن لا يُبنى بالحجر فقط، بل بالقلوب التي تُحب وتُعطي وتُربّي جيلاً يحمل البحرين في روحه قبل أن يحملها في اسمه.