ذات ليلة، قادني الملل إلى مشاهدة مسلسل تدور أحداثه في زمن الكساد الكبير، في أمريكا، تلك الفترة التي كان فيها شبح الفقر يخيم على كل شيء، بطل القصة رجل غامض، محامٍ سابق، يصل إلى بلدة صغيرة ليحرض المزارعين على الإضراب ضد جشع الشركات الكبرى، ملقياً خطابات رنانة عن «تقويض أسس الظلم»، شعارات تبدو مألوفة بشكل مريب، وكأنها تُعاد على مسامعنا كل يوم.
يبدأ المسلسل بمشهد غريب: رجل مسنّ يحمل بندقيته ويطلق النار بعشوائية على قنّ الدجاج في فناء منزله، صوت الرصاص يجذب المحامي الذي يقترب ليفهم سبب هذا الهجوم الغريب على دجاجات لا حول لها ولا قوة، يشرح الرجل العجوز بنبرة الواثق من صوابه: «هناك لص يسرق بيضة كل يوم! وأنا هنا ألقنه درساً، الوضع الاقتصادي لم يعد يسمح بخسارة بيضة واحدة!»، تدخل المحامي ليوقف هذا العبث، وفتح باب القن ليجد فتاة صغيرة ترتجف من الخوف، همست قائلة: «كنت أريد بيضة واحدة فقط»، طمأنها المحامي ثم عاد إلى العجوز ليدور بينهما حوار سريالي:
المحامي: «هل حطمت القن وقتلت نصف دجاجاتك كي لا تخسر بضع بيضات؟».
العجوز: «لا يهم! على المرء أن يتمسك بمبادئه!».
المحامي: «لكن (اللص) مجرد فتاة جائعة!».
العجوز: «لا يهم! ما دامت تجرأت على السرقة، فعليها تحمل العواقب!».
بعد مفاوضات استخدم فيها المحامي كل حيله الكلامية، وافق العجوز على ترك الفتاة تذهب، في الطريق، سألته الفتاة كيف أقنع العجوز؟ فأجابها ببرود: «لقد استعملت القانون لصالِحِك، ولو بشكل ملتوٍ»، ثم عرض عليها المساعدة، لكنها رفضت قائلة إنها لا تثق بالمحامين، وهنا، تجلت عبقرية المحامي الحقيقية، فقال لها: «حسناً، لكن خذي مني هذه الاستشارة القانونية المجانية»، ثم أدخل يده في معطفه وأخرج بيضتين كان قد سرقها خلسة من القن، وأعطاهما إياها، صاحت الفتاة بدهشة: «أنت سارق مثلي!»، فأجابها بابتسامة ماكرة: «أنا لم أسرق، بل نقلت أموالاً من طرف لا يستحقها إلى طرف آخر أكثر حاجة، والآن اسمعي نصيحتي: في المرة القادمة، لا تسرقي البيضة وحدها، بل خذي الدجاجة معها، ولا تنسي أن تتركي بعض الريش مبعثراً ليبدو الأمر وكأن ثعلباً هاجم القن، إنها مسألة إخفاء أدلة»، ضحكت الفتاة وقالت: «يا لكم من محامين بارعين!»، فرد المحامي: «هذا ليس قانوناً، بل مبدأ اقتصادي بسيط للبقاء».
وهكذا يا سادة، تمضي حياتنا عالقة بين منطقين، كلاهما أغرب من الآخر، منطق العجوز الذي يرى أن حماية «المبدأ» تستحق تدمير رأس المال بأكمله، فلا يهمه أن يقتل كل الدجاجات ويخسر كل البيض المستقبلي ما دام سيقضي على سارق تسلل لسرقة بيضة واحدة، ومنطق الخبير المحنّك الذي لا يعالج أصل المشكلة، بل يقدّم حلولاً ذكية للالتفاف عليها، فيعلمنا كيف نكون لصوصاً أفضل بدلاً من أن يساعدنا على ألا نحتاج للسرقة أصلاً، وبين عقلية التدمير باسم المبادئ، وعقلية التحايل من أجل البقاء، نقف نحن في المنتصف، نتساءل: هل الحل في أن نتمسّك بمبادئنا حتى لو خسرنا كل شيء، أم أن نتقن فنون الخداع لنكسب كل شيء؟ يبدو أننا نعيش في عالم يصفق لمن يدمّر ملكه دفاعاً عن بيضة، ويصفق أكثر لمن يسرق الدجاجة بأكملها ويخفي الأدلة بذكاء.
* عميد كلية القانون - الجامعة الخليجية