عثمان عادل العباسي

وأنا أمسك كوب الشاي الساخن في صباح هذه الأيام الدافئة بنسمة براد خفيفة، أعبر جسر المحرق نحو المنامة فأرى البنايات مموّهة بضباب ورطوبة خفيفة كأنها لقطة لندنّية بنكهة بحرينية. السيارات تتحرك ببطء معتاد، والهواء الخفيف يوقظك بلا مبالغة. وفي وسط هذا المشهد اليومي، خطر لي سؤال بسيط: لماذا نتجه جميعاً كل صباح إلى المكان نفسه، رغم أن البحرين توسّعت، ورغم أن أغلب أعمالنا مكتبية ويمكن إنجازها من أي موقع مجهّز؟ تخيّلت حينها لو أن الدولة وفّرت لنا مراكز عمل قريبة من بيوتنا، مراكز مجهّزة بالكامل، فيها مكتبك، شاشة كبيرة، قهوة بدون آخر، وغرفة اجتماعات تستطيع أن تفتح فيها الكاميرا وتقول بثقة: «نعم، نعم.. أنا موجود في المكتب».. بينما أنت في الحقيقة على بُعد بضع دقائق من بيتك! هل يبدو هذا خيالاً؟ في الحقيقة، العالم سبقنا إليه منذ سنوات، وليست فكرة "مركز عمل حكومي قريب من بيتك” شيئاً غريباً أو طموحاً مجنوناً، بل صار جزءاً أساسياً من منظومة العمل الحديثة في دول كثيرة.

في المملكة المتحدة مثلاً، أطلقوا ما يسمونه Government Hubs، وهي مبانٍ حكومية مشتركة يعمل فيها موظفو وزارات مختلفة من أماكن موزعة في المدن البعيدة عن لندن، لتخفيف الازدحام وتقليل وقت التنقل. الموظف هناك لا يحتاج أن يقود ساعتين ليصل إلى مكتبه، بل يختار المركز الأقرب لمسكنه ويحجز مكتباً بجانب نافذة مطلة على مدينة هادئة لا يسمع فيها إلا صوت لوحة المفاتيح وصافرة غلاية الماء. وفي كندا لديهم نموذج مشابه اسمه GCcoworking، سمح لآلاف الموظفين الحكوميين بالعمل من مراكز مجهّزة بالكامل في مختلف المناطق، واستطاعت الحكومة أن توفر بذلك ساعات طويلة من التنقل، بل ورفعت إنتاجية الموظفين بنسبة ملحوظة. أما الولايات المتحدة، فاعتمدت فكرة Federal Coworking داخل مبانٍ حكومية مشتركة، حيث يجلس موظفو وكالات مختلفة في مكان واحد، كلٌ على مكتبه، لكن الجميع يستفيد من الفكرة ذاتها: بيئة قريبة، مجهّزة، وذكية.. والنتيجة؟ عمل أكثر ووقت ضائع أقل.

وبين كل هذه النماذج الخارجية، تخيلت شكل تطبيقها في البحرين: مركز عمل حكومي في الشمالية، آخر في ديار المحرق، وربما ثالث في مدينة سلمان.. مكان تدخل إليه ببطاقتك الحكومية، تجد شبكات سريعة، غرف اجتماعات مجهّزة، وبشر يلبسون «باجاتهم» الرسمية مثلما اعتدنا، فقط الفرق أنهم ليسوا من الجهة نفسها، بل من وزارات مختلفة، يجمعهم هدف واحد: إنجاز عملهم بعيدًا عن زحمة المنامة، وقريبًا من بيوتهم. فكرة بسيطة.. لكنها تغيّر الإيقاع اليومي بالكامل.

والأجمل أن هذه المراكز ليست مجرد «مكاتب جميلة»، بل جزء من رؤية مستقبلية أوسع: استدامة، تقليل انبعاثات، تخفيف ازدحام، توفير وقت وجهد، وتحسين جودة حياة الموظف، تماماً كما فعلت الدول التي سبقتنا. والموظف البحريني، الذي يعيش نصف يومه بين إشارات المرور والدوارات، يستحق فعلاً هذا النوع من التنظيم الذكي الذي يضع الإنسان قبل المبنى، والوقت قبل الطاولة، والإنتاجية قبل المسافة.

وأنا أرتشف آخر جرعة من كوب الشاي قبل الوصول إلى الوزارة، انتابني شعور غريب.. إحساس أنّ هذه الفكرة ليست بعيدة، وأن البحرين اليوم تمتلك من البنية الرقمية والتنظيمية ما يجعل تطبيقها ممكنًا أكثر من أي وقت مضى. وفكرت: يا ترى.. هل سنرى يومًا تلك المراكز قريبة منا، تُغيّر صباحاتنا وتعيد تعريف معنى «الذهاب إلى العمل»؟ أم ستبقى مجرد فكرة تتكرر في الزحمة كل صباح.. في انتظار اللحظة التي تتحول فيها إلى واقع؟

* خبير تقني