مجيد أيوب، هو أحد ظرفاء بغداد المعروفين بداية القرن الماضي، عندما مرض مرض الموت، اجتمع حوله الأهل كما تجتمع خلية الأزمات، فقرروا استدعاء الدكتور حسني علي مبارك، فحضر وأجرى فحصه، وأخبر مجيد بضرورة ترك أمرين فوراً الأول الشرب والثاني تدخين النارجيلة، لأن صحته لم تعد تسمح بذلك، فما كان من مجيد إلا أن أسمع الطبيب أوسخ العبارات، وطرده من المنزل، فاستدعى أهله الدكتور عبد الرحمن قطان، وحدث ما حدث مع سابقه، ثم عرضوا عليه أن يقبل زيارة الدكتور عبد المجيد القصاب، وهو طبيب وسياسي، فقبل وقال هذا جاري وصديقي، وفعلاً حضر وأبدى رأي سابقيه، ومجيد في هذه المرة لم يسمعه ما أسمعه لمن سبقوه، إكراماً للصداقة القديمة، لكنه لم يرضَ بنصيحته، وأخيراً اضطر الأهل إلى استدعاء الدكتور سندرسن باشا، طبيب الملك فيصل الأول والعائلة المالكة وهو بريطاني وأول عميد لكلية الطب العراقية، وعندما دخل إلى البيت، وقبل أن يفحص مجيد، سأل أهله، هل كشف عليه طبيب غيري؟ فقصوا عليه مع حصل مع الثلاثة السابقين، فدخل عليه وفحصه وعلم أنه على حافة الموت، فقال له: مجيد أنت بحاجة إلى أن تقلل كميات الشرب، وأيضاً المرات التي تدخن فيها النرجيلة، وهذا كل ما في الأمر، فتبسم مجيد وقال للدكتور سندرسن: «ألف رحمة على روح من عملك باشا، أنت الطبيب الحقيقي وغيرك لا».

سندرسن رجل بريطاني والسياسة تجري بدمه مجرى الدم، يعرف كيف يدير الأمور، ومع أن ما قاله فيه خطأ، إلا أنه عرف أن المريض ميت ولا أمل في علاجه، كما أنه غير مستعد لترك سبب المرض، فقدم له نصيحة، المنتفع الوحيد منها هو الطبيب نفسه، فيها أصبح أفضل طبيب، ببساطة، فهم ما لم يفهمه غيره، الواقع أن أكثر البشر لا يبحثون عن الحقيقة، بل عن «النسخة المريحة» منها، قد تبدو القصة فكاهية، لكنها مأساة مكررة، تحدث في الإعلام، وفي السياسة، وفي التحليل الاقتصادي، وغيرها، فإذا كنت كاتباً يحذر الناس من كارثة اقتصادية، أو تتحدث عن أزمة سياسية عميقة، أو تكتب أن الأمور لن تتحسن قريباً، فالناس ستغلق مقالك وهي تتمتم: «هذا ما عنده سالفة، كلّه تشاؤم!».

أما إذا كتبت لهم: «الفرج قريب»، «2026 سنة الانفراج»، «الأبراج تبشّر بتحسن الوضع المالي والسياسي والاجتماعي والعاطفي والعقاري»، فستُرفَع فوق الأكتاف، وتُضاف مقالاتك إلى المفضلة، ويُقال عنك: «كاتب يفتح النفس!» لذلك صار السياسي الناجح هو من يُجيد لعبة «سندرسن باشا».

لا يقول الحقيقة، بل يقول ما يريد الناس سماعه، لا يقرع أجراس الخطر، بل ينفخ في بوق الأمل، وللأسف، هذه النسخة هي التي تُكافأ في هذا العالم، سواء في السياسة أو الإعلام أو حتى في العلاقات الشخصية. الصراحة أصبحت سلوكاً انتحارياً اجتماعياً، صار من الحكمة أن تعرف الحقيقة، لكن لا تنطق بها.

في النهاية، كل واحد فينا فيه شيء من مجيد أيوب، نغضب حين يخبرنا أحدهم أن خياراتنا مدمّرة، ونرتاح لمن يخبرنا أن العالم سيُعدّل نفسه من دون أن نحرك إصبعاً.

* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية