قبل أيام، وخلال إحدى المناسبات، التقيت وجهاً لوجه بشخصية معروفة في مواقع التواصل الاجتماعي. لم أكن من المتابعين لها، ولا من المعجبين بمحتواها، فغالب طرحها إعلاني، وأسلوبها في نظري، وفي نظر الكثير، مستفز ومفتعل. غير أن اللقاء المباشر كشف عن مفارقة لافتة، شخص هادئ، طبيعي، مختلف تماماً عمّا يقدمه للناس عبر الشاشة.
في لحظة صراحة، طرحت عليه سؤالاً ظل يدور في ذهني طويلاً، لماذا تظهر أمام الناس بهذا الأسلوب الذي يراه كثيرون مستفزاً ومثيراً للسخرية، بينما أنت في الواقع شخص آخر؟ كانت إجابته مختصرة وصادمة في آن واحد «لقمة العيش صعبة».
توقفت عند العبارة طويلاً. هل بلغ بنا الحال أن يجعل الإنسان من نفسه مادة هزلية، أو نموذجاً للاستفزاز المتعمد، فقط ليكون حديث الناس، ويضمن عدداً أعلى من المشاهدات، وضجيجاً لا ينقطع؟ ضجيج لا يضيف قيمة، لكنه يحقق هدفاً واحداً، المال.
استحضرت حينها قضية حديثة لإحدى المشهورات في دولة خليجية، عُرفت بمحتواها الجريء والمستفز، قبل أن تتدخل السلطات لإيقافها. المفارقة أن ما كُشف لاحقاً عن سيرتها السابقة أظهر شخصية مختلفة تماماً، صاحبة مؤهلات علمية، ومبادرات، وإنجازات، وحتى براءات اختراع. لكن كل ذلك -كما قيل- «لا يؤكل عيشاً». أما الطريق الأسهل فكان التهريج.
المؤلم في الأمر أن هذا النموذج لم يعد استثناءً، بل أصبح ظاهرة. مشاهدينا اليوم لا يحفظون أسماء العلماء، ولا يتداولون أفكار المفكرين، بقدر ما يتناقلون مقاطع «مشاهير اللا قيمة». الأسوأ من ذلك أن السواد الأعظم ممن ينتقدون هذا الواقع، يشاركون بوعي أو بدونه في صناعته، يهاجمون، ثم يشاهدون، ثم يعيدون النشر. تناقض صريح بين القيم المعلنة والسلوك الفعلي.
قد يقول قائل، هؤلاء هدفهم المال، فما هدفك أنت؟ أليست التسلية؟ أليست الفضول؟ هنا تكمن المشكلة الحقيقية.
نعم، للزمن الذي نعيشه دور، ولحرية المنصات أثر، ولغياب الضوابط حدود واضحة. لكن الأهم أننا دخلنا منعطفاً أصبح فيه كل شيء «عادياً»، وأي محتوى مهما كان قابلاً للانتشار. لم يعد صانع المحتوى مرتبطًا بدولة أو قانون أو سياق، فالعالم المفتوح يمنحه بدائل لا تنتهي.
أمام هذا الواقع، قد لا نملك القدرة على التغيير، لكننا نملك خياراً بسيطاً ومؤثراً، التجاهل. أن نسحب الأضواء عمّن لا يستحقها، وأن نكفّ عن صناعة نجومية زائفة بأيدينا، ثم الشكوى منها.
ففي زمن الضجيج، أحياناً يكون الصمت هو الموقف الأكثر وعياً.