^   عند نهاية عقد التسعينات اجتمع “50” خبيراً أمريكياً في واشنطن، لبحث موقف الحرب الدائرة في السودان، بين الشمال ممثلاً في حكومة الرئيس عمر البشير والجنوب ممثلاً في حركة التمرد التي يطلق عليها “الحركة الشعبية لتحرير السودان” بقيادة جون قرنق. اجتمع هؤلاء الخبراء وفقاً لمبادرة من “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية”، الذي يتخذ من العاصمة واشنطن مقراً دائماً له. لم يكن مثار دهشة كبيرة أن ممثلاً للحركة الجنوبية كان يشارك في الحضور مع الخبراء الأمريكيين، بينما لم يكن هناك ممثل للحكومة السودانية. فقد كان الهدف من وضع نهاية للحرب، هو إنقاذ قوات الحركة الجنوبية من هزيمة عسكرية حاسمة على يد قوات الجيش الحكومي. حينئذٍ كان ذلك أحدث تدخل خارجي في مشكلة جنوب السودان، لصالح الجانب الجنوبي. ولم يكن مشروع معهد الدراسات الأمريكي بمنأى عن السلطة الرسمية الأمريكية، فالتقرير الذي صدر عن المعهد تلقفته إدارة الرئيس جورج بوش الابن، وتبنت تطبيقه في المراحل التالية التي أدت إلى مفاوضات سلام بين الحكومة السودانية وحركة قرنق، تتحكم واشنطن في تفاصيلها باسم الوساطة والرعاية. ما يطلق عليه “مشكلة جنوب السودان”، بدأت في منتصف خمسينات القرن الماضي. وعلى مدى “57” عاماً حتى اليوم، ترافقت مع تطورات المشكلة تدخلات أجنبية من نوع أو آخر. الشرارة الأولى للقضية تمثلت في تمرد عسكري في الجنوب، قامت به مجموعة من ضباط وجنود جنوبيين. ومع فشل هذه الحركة، اضطر الضباط والجنود إلى الهرب عبر الحدود الدولية إلى أوغندا وكينيا. وعبر بضع سنوات ومع هروب المزيد من الجنوبيين، عسكريين ومدنيين، تحولت الحركة إلى تنظيم قتالي باسم “أنيانيا” أي “الحشرة السامة”، متخذة من العاصمة الكينية “نيروبي” مقراً سياسياً. وهناك دخلت على خط الحركة جهتان أجنبيتان لدعمها بالمال والسلاح والدعاية الإعلامية. الجهتان كانتا إسرائيل ومجلس الكنائس العالمي. إسرائيل تعاملت مع الحركة من منظور الصراع العربي ـ الإسرائيلي في أفريقيا السوداء. كان ذلك عهد التحالف بين مصر الناصرية وحركات التحرر الوطني الأفريقية، لذا كان من الطبيعي أن تدعم إسرائيل الحركة الجنوبية في عدائها للشمال السوداني العربي الإسلامي. مجلس الكنائس العالمي كان يرى في الحركة تنظيماً مسيحياً يمثل الجنوب السوداني غير المسلم، لذا كان هدف مجلس الكنائس العالمي تأليب الغرب المسيحي أيضاً ضد الشمال العربي المسلم. وبينما كان دور مجلس الكنائس دعائياً بالدرجة الأولى، فإن الدور الإسرائيلي أشد خطراً. فقد أقامت إسرائيل معسكرات تدريب قتالي لحركة “أنيانيا” في شمال أوغندا بمحاذاة الحدود السودانية، وتولت إمداد كوادر الحركة بالسلاح. كان هذا هو الوضع خلال النصف الأول من عقد الستينات، إلى أن عقد مؤتمر سلام بين الجنوب والشمال في عام 1965. وفشل المؤتمر بعد أن رفض ممثلو الجنوب عرضاً من مجموع الأحزاب الشمالية، بمنح الجنوب حكماً ذاتياً. فقد أصر ممثلو الحركة الجنوبية على مطلب الانفصال الكامل عن الشمال، المطلب الذي كان مرفوضاً من ممثلي الشمال. وفي عام 1969 أعاد الشمال عرض صيغة الحكم الذاتي.. لكنها ووجهت برفض جنوبي للمرة الثانية. هنا يبرز السؤال: في عام 1972 قبلت الحركة الجنوبية اقتراح الحكم الذاتي، فلماذا؟ هنا نرى تدخلاً خارجياً من نوع ما. فالمؤتمر الذي جرى فيه قبول الحكم الذاتي، كان تجمعاً مسيحياً صرفاً، بزعامة إمبراطور إثيوبيا المسيحية هيلا سلاسي ومشاركة ممثلي الكنائس الإفريقية. وكان من بين بنود اتفاق السلام الذي عُرف باتفاقية أديس أبابا، حظر استخدام اللغة العربية في الجنوب، مع حظر التبشير الإسلامي والسماح في الوقت ذاته بالتبشير المسيحي. ولكن بعد “11” عاماً من السلام في الجنوب، تفجر صراع قبلي جنوبي ـ جنوبي، أدى إلى نسف نظام الحكم الذاتي. وكما اتضح لاحقاً، كان ذلك إيذاناً بظهور حركة تمرد مسلح مرة أخرى. هكذا خرجت إلى حيز الوجود “الحركة الشعبية” كتنظيم متمرد، ليس فقط ضد السلطة المركزية في الشمال، ولكن أيضاً ضد مجموع القبائل الجنوبية الأخرى. فقد كانت حركة قرنق لا تمثل سوى قبيلة واحدة، ترى أنها الأجدر من غيرها من القبائل الأخرى بالانفراد بحكم الجنوب. كان ذلك في عام 1983. وحتى ذلك التاريخ كانت الولايات المتحدة بمنأى عن التدخل في مشكلة جنوب السودان. التدخل الأمريكي بدأ عبر حركة قرنق. لقد تحول الجنوب إلى دولة مستقلة تحت حكم “الحركة الشعبية”، ووفقاً لهذا التحول ينتقل التدخل الأمريكي إلى مرحلة جديدة، من إسناد حركة تمرد إلى دعم دولة. ويبقى الهدف دون تغيير جوهري.. وهو استنزاف الشمال العربي الإسلامي. هذا هو مغزى الحرائق الحدودية التي تشعلها من حين لآخر، سلطة “الحركة الشعبية”. عن البيان الإماراتية