^  من بين العناصر التي يرتكز عليها الحراك السياسي المعارض في البحرين، الحديث عن برنامج سياسي شامل، يوصف بكونه وطنياً ممثلاً في “وثيقة المنامة”، التي تلخص فيها المعارضة رؤاها للبديل الديمقراطي الوطني بحسب تعبيرها. وبغض النظر عما ورد في الوثيقة من تشخيص للوضع القائم الذي يظل محل اختلاف بحسب زاوية الرؤية والمنطلقات التي ينطلق منها كل طرف، فإنها تقدم نفسها على أنها وثيقة لمرحلة جديدة، تتجاوز بها الإجماع الذي جسده البحرينيون من خلال ميثاق العمل الوطني، وذلك انطلاقاً من الادعاء أن (الوثيقة) تعبر عن تطلعات “الأغلبية الشعبية”، بما يجعل مقدميها عندما يطرحونها، يعتبرونها بمثابة خارطة طريق لإخراج البلاد من حالة التأزم والانقسام، ومن “حالة التسلط” إلى “حالة الديمقراطية الحقيقية”.. ومن حالة “الإصلاح الشكلي” إلى حالة “الإصلاح الحقيقي ذي المغزى”. ورغم أهمية العديد من الأفكار والرؤى المطروحة في هذه الوثيقة، وجزء منها كان متداولاً منذ سنوات عديدة، وبعضها متحقق على الأرض بالفعل، فإنها تواجه مشكلتين: الأولى: محدودية التمثيلية التي تدعيها، إذ من الواضح أنها تمثل المعارضة التي وقعت عليها فقط، ولا تمثل من حيث صياغتها ومنظورها السياسي والمنهجي في التشخيص والتجاوز والحل وصورة المجتمع، رؤية وطنية توافقية شاملة تمثل كافة أطياف المجتمع. فهي تظل في الداخل فئوية، ومن حيث الرسالة النهائية تبدو كأنها موجهة للخارج، كمشروع للتداول على السلطة بمطالب بسقف عال، لا يمكن تحقيقها بصورتها المطروحة لا في السياق المحلي ولا في السياق الإقليمي. الثانية: وهي نتيجة حتمية للأولى تتعلق بمدى مشروعية هذه الوثيقة التي لم تناقش على نطاق وطني ولم يستفت جمهور المواطنين فيها، وبالتالي تظل مجرد “ورقة عمل تمثل قسماً من الحراك الوطني، لتبقى بهذا المعنى مجرد وجهة نظر لمكون وطني واحد، ولكنها لا تمثل الجميع لا في مضمونها ولا في توجهاتها ولا في سقفها العالي ولا في مدى تجسيدها للإرادة العامة!! وهي بهذه الصفة تختلف عن ميثاق العمل الوطني (مثلاً) من حيث التمثيلية ومن حيث المشروعية، وكأنّ طارحي الوثيقة يوجهونها عملياً إلى الخارج تماماً مثل سائر مكونات خطاب المعارض... وهنا لا بد من أن نستذكر بكل وضوح أن البحرين قد خطت خلال السنوات الماضية خطوات مهمة بعد إقرار ميثاق العمل الوطني، وتدشين المشروع الإصلاحي تحققت خلالها طموحات عديدة على أرض الواقع، وبقيت آمال أخرى تحتاج إلى تجسيم، واستمرت التجربة تسير في فلكها الطبيعي إلى أن جاء الحراك المفاجئ الذي أفضى إلى حالة ثورية لم تعد تقبل بمنهجية الإصلاح والتدرج في تحقيق المطالب ولذلك ألغت بجرة قلم ما أجمع الناس عليه في ميثاق العمل الوطني الذي يظل مرجعية الثوابت الأكثر مشروعية إلى حد الآن.. ويتم اليوم تجاهل تلك الآفاق الجديدة التي انفتحت مع المشروع الإصلاحي والتي قوامها المشاركة الشعبية، وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني، والحريات العامة والخاصة، وحرية الصحافة وحرية إنشاء الأحزاب السياسية، لتشكل تجربة جديدة مبنية على ضمانات دستورية، وبإقرار شبه كامل من قبل الشعب، ولن يجد المتابع للشؤون السياسية والاقتصادية لمجتمع البحرين، صعوبة في إدراك التغيرات المهمة التي حصلت في هذا المجتمع الفتي بين مجتمعات دول مجلس التعاون الخليجي، ولا أعتقد أن هذا المجتمع يحتاج اليوم إلى وثائق جديدة، بقدر ما هو في حاجة إلى الحوار الوطني الصادق وإلى التصالح مع نفسه وإلى استخدام لغة العقل والاعتدال وتحييد القوى المتطرفة من جميع الأطراف، فالحوار وحده يمكن أن تنتج عنه وثيقة وطنية مشتركة تتضمن القواسم والمبادئ والأسس التي لن تكون بعيدة عن ما تضمنه ميثاق العمل الوطني. في كل الأحوال، يجب أن نعترف بأن الديمقراطية لا يمكن أن تكون مجرد وصفة مستوردة من الخارج طبقاً للمواصفات الأجنبية، وإنما هي -أساساً- فعل محلي داخلي وطني بتفاعلات وحوارات وطنية مفتوحة لتحقيق الوفاق الوطني الحقيقي وتعزيز الوحدة الوطنية والمضي قدماً نحو آفاق أوسع من المشاركة والحرية والتنمية والعدالة، لقطع الطريق أمام التدخلات الخارجية لاستخدام المسألة الديمقراطية كـ “أداة” من أدوات السياسة الخارجية لبعض الدول الكبرى، ولذلك فإن أي حوار جدي يجب أن يدور حول وحدة معركة الحرية: استقلال الوطن واستقرار قراره، وحرية المواطن والإنسان، التحرر من السيطرة الخارجية لا كبديل عن الحرية السياسية وحقوق الإنسان، بل كأفضل شرط لتحقيقها.