الحدود الأردنية السورية - محمد لوري:
«فقدت وعيي بعد أن شاهدت رجلاً ضخماً حليق الرأس يجز عنق طفل في المستشفى»، يقول عبدالرحمن ابن مدينة حماة اللاجئ في الأردن في مستهل قصة سردها لـ»الوطن» وآثار ما شهده من موت مازالت شاخصة في عينيه، ويضيف «ظنوا حينها أني مت إلا أن الرجل أطلق علي النار في بطني فأخذوني إلى براد المستشفى، قبل أن يأتي أهلي لأخذي بعد أن دفعوا رشوة 170 ألف ليرة (1000 دينار بحريني) وقبل الدفن بقليل اكتشفوا أني حي.. وكتب الله لي عمراً جديداً رغم أنف النظام المجرم».
في كل تفصيل من قصة عبدالرحمن يقف الرعب والترهيب شاخصاً، وليس أقلها رعباً حين قال: «خرجت بمظاهرة سلمية وأنا أهتف، سمعت وابلاً من إطلاق النار قبل أن أجد نفسي ملقى بين جثث نحو 15 شهيداً.. كنت الوحيد الحي، قبل أن ينتبه أحد الضباط إلى هذا فأفرغ 3 طلقات في قدمي».
وبدأ عبدالرحمن قصته، التي تفيض أسى وتدمع لها العين ويستنكرها من لديه ذرة من الإنسانية، إذ كيف يموت رجل ويبعث إلى الحياة مرة أخرى على شكل معجزة لا يصل العقل إلى حدود تصورها، وقال: «انهالوا عليّ ضرباً بالعصي والحديد وجميع ما تيسر بأيديهم من أدوات جارحة مما سبب لي تهشماً في الجمجمة و5 كسور في الحوض».
وعلى الرغم من جميع ما تعرض له عبدالرحمن من إصابات من أسلحة نارية وعصي وحديد لكنه يحن للعودة إلى حماة منتصراً ومحرراً لها من نظام الأسد الفاشي.
وقال عبدالرحمن: «بدأ الناس بالخروج بتظاهرات في سوريا ولكننا في حماة ترددنا، في البداية، ولم نخرج لعلمنا بوحشية هذا النظام من قبل، لكننا لم نشأ أن نترك أبناء المدن الأخرى يتظاهرون لوحدهم، وكان لابد من دعمهم وإسنادهم فخرجنا بتظاهرات سلمية 100% في ساحة العاصي وسط حماة لفترة قصيرة وفي أول جمعة لخروجنا بدأت قوات الأمن تطلق النار والغازات المسيلة للدموع وغازات الأعصاب علينا مما تسبب لنا بشلل الأعصاب وتضرر عيون عدد كبير من الأطفال.
وواصل عبدالرحمن سرد قصته: «إصابتي الأولى كانت في 17 أبريل 2011 عندما كنت أقود دراجتي النارية للتأكد من سلامة خط المسيرة وعدم وجود أي عناصر أمنية في الطريق أو أي كمين فتعرضت لطلق ناري في الساق ورصاصة أخرى في الصدر وأحمد الله أنها مرت بجانب القلب وأني أعدها معجزة فالإصابات لم تلزمني بالجلوس في المستشفى سوى ساعتين، وبعدها آليت على نفسي أن أعود إلى التظاهرة.
وأضاف: «استمرت الأوضاع على ما هي عليه إلى «جمعة أطفال الحرية»، في 3 مارس 2011، و كان الأمن موجوداً والشباب المشاركون في المسيرة يعملون على حفظ نظام المسيرة والحرص على عدم تعرض أي مشارك لرجال الأمن، حفاظاً على أرواح المشاركين، ووصلنا إلى آخر الطريق، فأعطى ضابط أوامره للجنود بفتح النار على المتظاهرين، وفيهم نساء وأطفال، فسارع الناس إلى الهرب وأخذوا يصدمون بعضهم ببعض فسقط العديد من الشهداء برصاص الأمن وبعضهم الآخر مات خنقاً من الصدامات التي حصلت وخصوصاً الأطفال».
«ولم تنتهِ القصة»، قال محمد فقد «اضطررنا للانسحاب وأخذت أنقل الجرحى والشهداء بسيارتي من الساحة إلى المشفى وصار لون سيارتي الأبيض أحمر بالدماء التي سالت من الناس في ذلك اليوم، وعندما لاحظ جنود بشار لون السيارة وآثار الدماء عليها لتبدأ عملية المطاردة فحاولت الهرب وأوقفت السيارة ودخلت وسط إحدى التظاهرات لكي أنجو، فعاود الجنود إطلاق النار على التظاهرة فحوصرت ومعي 20 شاباً في شارع مغلق وكلما حاولنا الخروج يرموننا بالرصاص، فانتهزت الفرصة وقطعت الشارع واختبأت خلف شجرة كب، وحاول أحد الشباب اللحاق بي فأصابته رصاصة في الرأس وسقط قربي شهيداً، وحاولت أن أسحبه فأصابني قناص برصاصة في خاصرتي وأخرى بين عمودي الفقري وفخذي الأيمن واستقرت في منطقة الحوض ولم أستطع الإحساس بهذا القدم إلى الآن.
وصمت عبدالرحمن قليلاً وكأنه يتذكر ما جرى له في تلك اللحظات العصيبة: «بعد سقوطي على الأرض تقدم نحوي جنود بشار والشبيحة وانهالوا عليّ ضرباً بالعصي والحديد وجميع الأشياء الأخرى مما سبب لي تهشماً في الجمجمة و 5 كسور في الحوض، هذا الضرب كله وأنا مصاب برصاصتين من قناص، وحال دون إسعافي ونقلي إلى المستشفى انعدام الإنسانية وزوال الرحمة من قلوب الشبيحة وجنود بشار».
وقال عبدالرحمن: استكمالاً لعملهم الإجرامي سحبني رجال الأمن مسافة 60 متراً وعند وصولهم لأي رجل أمن ينهال علي ضرباً بأي شيء متاح في يده والكثير ممن كانوا يضربوني يوجهون إليّ الشتائم بلغات لا أفمها ولا سمعت بمثلها قبلاً في سوريا، وميزت بين اللهجات، اللهجتين اللبنانية والعراقية وكان هناك شبيحة أشبه ما يكونون بالشيطان ويكلمونني بلغة أسمعها لأول مرة.
يكمل عبدالرحمن قصته: «أصبت بنوع من فقدان الوعي فرموني على كومة مكونة من نحو 15 شهيداً كنت الحي الوحيد بينهم، فذعرت من بشاعة المنظر وأنا وسط جثث شهداء ولكني جاهدت للوقوف والخروج من هذه الكومة، فلاحظ خروجي أحد الضباط وجاءني ومعه أحد أفراده أخذ منه رشاشه وأفرغ 3 طلقات في قدمي ثم جاء الفرد الذي معه وأطلق علي النار من بندقية صيد في مشط قدمي، وبعد هذا كله فقدت الوعي لأجد نفسي في صندوق إحدى السيارات».
قال عبدالرحمن كنت أتوقع أنهم سيأخذوني إلى المستشفى ولكنهم أخذوني إلى أمن الدولة للتحقيق معي وكان الدم يقطر من جسدي كالشلالات وطوال الطريق كنت أتعرض للركل والإهانات، وخلال التحقيق سقطت أرضاً فركلني المحقق على وجهي لألتف على الأرض كعقارب الساعة.
وبعد انتهاء التحقيق توقعت أن يتم نقلي إلى المشفى ولكنهم أخذوني إلى الأمن العسكري وهناك شتموني وشتموا الدين الإسلامي والقرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد هذا الضرب والإهانات قال لهم الضابط المسؤول «شيلو وكبوه في المستشفى الوطني».
فقدت الأمل في الذهاب إلى المشفى وبدأت بنطق الشهادة ولكنهم حينها قرروا الذهاب بي إلى المستشفى ووضعوني في الممر وكان هناك نحو 10 شبان بينهم طفل عمره 12 سنوات مصاب بطلق ناري في ركبته، والغريب أنه لم يكن في المستشفى طبيب، بل كان المستشفى أشبه بالثكنة العسكرية للشبيحة والأمن.
وفجأة دخل علينا رجل ذو بنية كبيرة ورأس كبير أشبه ما يكون بالغول ولا يتكلم العربية ولا يمت بأي صلة للسوريين يحمل سلاحاً كبيراً لم أستطع تمييزه، وبدأ هذا الغول يصوب سلاحه على رؤوس الجرحى ويطلق النار عليهم بدم بارد من بداية الممر الذي تجمع فيه الجرحى، فبدأ الشاب الصغير ذو الـ12 سنة بالتكبير في وجهه: «الله أكبر عليك .. الله أكبر عليك»، مما أغاظ الغول فحمل الطفل من شعره وأخرج سكينة من جيبه وبدأ بنحره فاصلاً رأسه عن جسده، فلم أتحمل بشاعة المنظر وأغمي علي، فصوب إليّ الغول سلاحه ورماني بإطلاقات تفجرت في بطني وحملوني إلى ثلاجة الموتى، ولحسن الحظ أن القائم والمسؤول عن ثلاجة الموتى كان من معارف أهلي كونه أحد سكان المنطقة فاتصل بأهلي وأخبرهم أن يأخذوني لكي لا أدفن في المقابر الجماعية كما حدث من قبل.
عندما وصل أهلي لتسلم جثتي اضطروا لدفع رشوة للعاملين لإخراجي من الثلاجة وتهريبي من المشفى دون علم الشبيحة والأمن فدفع الأهل 170 ألف ليرة سورية (ما يعادل 1000 دينار بحريني تقريباً) وفي طريقهم لإخراجي من المستشفى وأخذي لغسلي ودفني أحسوا بحرارة جسدي وأني كنت أتنفس فأخذوني مباشرة إلى أحد المستشفيات الميدانية في حماة، وبقيت 28 يوماً في العناية المركزة واستخدمت 9 وحدات دم إضافة إلى 10 أيام كنت فاقداً الذاكرة فيها، وبقيت نحو 50 يوماً في المشفى إلى أن أذن لي الطبيب بالمغادرة.
لم تصدق أمي أني على قيد الحياة عندما سمعت ما حدث لي فأخذت أقسم بالله بأني على قيد الحياة.
وواصل عبدالرحمن قصته المأساوية العجيبة، وقال: خلال محاولة خروجي من سوريا إلى الأردن أوقفنا أحد رجال الأمن وقال لي: «شو أنت؟ مو المفروض اتكون ميت» ولكن الحمد لله مع قليل من المحاولات سمح لي بالمرور، وعند وصول خبر أني مازلت على قيد الحياة أخذ الأمن السوري بحرق منزلي وتهديد جميع أقاربي بسبب ظهوري على شاشات التلفزيـــــــون وتداول وسائل الإعلام قصتي.