تحقيق ـ حسين التتان:
اشترى محمد منزله قبل عشرة أعوام في منطقة من أهدأ مناطق البحرين، وبثمن مرتفع جداً، لأنه فخم للغاية، هرباً من المنامة المزدحمة بالسكان.
لكن محمد وجد نفسه، اليوم، أن منطقته الهادئة انقلبت إلى منطقة تجارية.
قال مع نفسه: هذا ليس ما اتفقنا عليه، وليس الذي بسببه تركت منزلي في المنامة واشتريت آخر في منطقة هادئة، فما الذي حدث لتنقلب هذه المنطقة إلى تجارية صاخبة؟ كيف حصل ذلك؟
ليس محمد وحده من يطرح هذه الأسئلة، بل يطرحها كل مواطن هرب من جحيم الضجيج إلى جنة الهدوء، لكنهم جميعاً وجدوا أنفسهم، بعد فترة من الزمن، هربوا من صخب إلى صخب، ولاذوا من الرمضاء بالنار، وورطوا أنفسهم وأسرهم، فلا راحة ولا استقرار!
شوارع سكنية، تحولت إلى شوارع تجارية، هذه القضية يتداولها الجميع، والجميع يتبرأ منها كذلك، والضحية فيها هو المواطن.
الناس ضجَّتْ
يعيش المواطن ناصر محمد جاسم في المحرق ويكره الضجيج، ولا يرضى بالبقاء في منطقة يقطعها شارع تجاري، سواء كان مرخصاً أم لا.. عندما التقيته قال لي: إذا أردت الصراحة فإن المستفيد من عملية تحويل الشوارع السكنية العامة إلى شوارع تجارية، هم المواطنون أنفسهم، فالكثير من المواطنين، حولوا أجزاء من مساكنهم إلى محال تجارية، وبهذا فإنهم يتحصلون على مبالغ جراء الإيجار، لكن هناك مواطنين (وهم السواد الأعظم) تضرروا بسبب تحوّل السكني إلى تجاري، فعاشوا الزحام والإزعاج اليومي.
وأكد جاسم أنه لا يستطيع العيش في مناطق تجارية، فهو ينشد الهدوء والراحة، صحيح أنه يرى ضرورة توفر بعض الخدمات الخفيفة، كوجود برادة واحدة ومخبز واحد ومغسلة واحدة لا غير، لا أن تتحول المنطقة كلها إلى حي تجاري، فيها من المطاعم والمخابز والورش والكراجات ومحال بيع الملابس والمقاهي، ما لا يعد ولا يحصى، وقال: إن من الأخطاء الجسيمة التي ترتكبها البلديات، إعطاء الرخص العشوائية للمباني التجارية والسكنية في المناطق والأحياء الضيقة جداً، إذ لا مواقف للسيارات ولا أي أمر آخر توفره للعيش براحة في تلك الأحياء السكنية.
ويعزو جاسم المشكلات المترتبة على تحوَّل الشوارع السكنية إلى تجارية، إلى عدم التخطيط السليم.
توبلي وجدعلي سوق كبيرة
خرجنا من المحرق إلى منطقة توبلي، التي تحوَّلتْ كلها إلى سوق كبيرة، هناك التقينا المواطن علي بحر، الذي قال: مما يؤسف له أن المجالس البلدية عملت وفق مصالح أناس معينين، من دون مراعاة المصلحة العامة، فهي تفكر بتطوير المنطقة، من أجل الحركة والعوائد المادية فقط، من دون الاهتمام براحة الأهالي، مما جعل منطقة توبلي السكنية وضواحيها تتحول بالكامل إلى منطقة تجارية، وهناك شوارع سكنية، حولتها المحسوبيات إلى شوارع تجارية، فهناك قصة تقول إن البلدي أعطى إجازة لشخص أو شخصين لإنشاء محال تجارية، وحين ذهب البقية للغرض نفسه، رفضت المجالس إعطاءهم رخصة، مما أثار سخط هؤلاء فأحدثوا حركة قوية وضغط شديد، حتى استجابت لهم المجالس، والسبب أنها مارست أمراً مخالفاً من البداية.
رأى بحر أن عدم وجود تخطيط واضح هو المشكلة، فما حدث في قضية أبراج الاتصالات حدث اليوم في أمر المحال التجارية، فالعشوائية في كل شيء ولا تخطيط يسبق الإنشاءات، ولولا شكاوى الناس لما تحرك ملف الأبراج المخالفة.
وأكد بحر أن الجهات المختصة تحاول اليوم معالجة ملف الأبراج والشوارع السكنية التي تحولت إلى تجارية لكن بعد ماذا؟ بعد خراب البصرة وفوات الأوان، ففي البحرين تعطى الرخصة من دون تخطيط، كما إن المنع وسحب الرخص يتم من دون تخطيط.
وقال: لا تقع الملامة في هذا الملف، على عاتق البلديات أو المجالس البلدية، بل إن قسماً من الملامة يتحمله أهالي تلك المناطق، من الذين تنازلوا عن أجزاء مهمة من واجهات منازلهم ليحولوها إلى (دكاكين)، فقط للربح المادي من دون الاهتمام براحته أو راحة أهله وجيرانه، ونحن نقول إنه يجب أن تعطى الرخص للمحال التجارية بشروط وقيود صارمة، فما حدث في السابق كان نوعاً من الفوضى، ففي الوقت الذي امتلكنا منازل في توبلي لأجل السكن والراحة، ها هي توبلي ومعها جد علي تحولتا إلى سوق كبيرة للغاية.
الفساد
قبل الحديث مع أي جهة مختصة أو مسؤولة، أردنا معرفة رأي أحد الناشطين الاجتماعيين وأحد النشطاء السياسيين من الملتصقين بالأهالي، وهو وليد هجرس البلدي السابق.
يقول هجرس، حسب ما يمتلك من معلومات سابقة عن المشكلة: كانت هناك لجنة في وزارة البلديات، تسمى لجنة الشوارع التجارية، ولا أعلم هل هي مازالتْ موجودة أم أنها أُلغيتْ، وأذكر أنني فضحت هذه اللجنة خلال عملي عضواً في البلدي، وعريتها بالدليل وبالصور، إذ كانت تعمل بمزاجية وبصفة غير قانونية، وتنخرها المحسوبيات والمصالح الشخصية، إضافة إلى أنها لم تكن تملك رؤية واضحة للتخطيط، اليوم نحن نعاني أخطاء من كانوا يمتلكون الصلاحيات في قضايا الشوارع السكنية التي تحولت إلى تجارية.
وأكد هجرس أن البلديات بدأت، اليوم، بوضع قوانين مشددة تخص الرخص التجارية، وقال: إن الرخص السابقة كانت تعطى في شوارع سكنية، فقط لأن هناك أراضي خاصة ببعض المسؤولين في الدولة أو أن يكون من أصحاب النفوذ، أو أن لوجود مصالح لبعض المسؤولين في البلديات، بينما في المقابل هناك مناطق سكنية كاملة تفتقر إلى أبسط الخدمات، لكن البلديات ترفض إعطاء تصاريح لها، ولعل أوضح مثال على ذلك، هو مدينة زايد، التي ليس فيها أبسط الخدمات.
وأبدى هجرس اعتقاده أن جميع المخالفات المتعلقة بتحويل المناطق والشوارع السكنية إلى تجارية، هي مخالفات شرعية وقانونية وأخلاقية، فمن يعطي الرخص لأجل المال، من دون مراعاة لحرمة القاطنين فيها، لا يملك وازعاً من ضمير أو مسؤولية، فكثير من الرخص، اليوم، صدرت بصفة غير قانونية، وتم بيعها وتأجيرها في السوق السوداء، على من يطلق عليهم اليوم زوراً بـ(لفري فيزا).
وأضاف هجرس: إن الموافقة على إنشاء رخص تجارية في المناطق السكنية، يجب أن ينال موافقة وزارة البلديات مناصفة مع المجالس البلدية، بالإضافة إلى الحصول على تصاريح مكملة من إدارتي المرور والبيئة.دوأشار إلى أن المعايير الحقيقية لهذا الأمر، موجودة بالفعل، لكنها لا تطبق، أو أنها تطبَّق على فئة من المواطنين دون أخرى، حسب أهواء المسؤولين وأمزجتهم، في الوقت الذي جاء الناس من كل حدب وصوب لشراء مساكن العمر لأجل الراحة، لكن بعض المسؤولين لا تهمهم راحة الناس بقدر اهتمامهم بمصالحهم الخاصة، وأنه قبل إقرار أي قرار يخص تحويل السكني إلى تجاري، أن تكون المعايير هي المقياس في تلكم الرخص، وأن تنتهي ظاهرة المحسوبيات والوساطات وغيرها من الأساليب الفاسدة التي كان بعضهم يمارسها في السابق، ولا نعلم هل انتهتْ أم ما زالت قائمة؟!!
كل له يد
لا أحد أدرى بشعاب مكة من أهلها، كما يقولون، والمجالس البلدية المُتَّهِمة والمُتَّهَمة في آن واحد، طرف في هذا الموضوع، وهي أعرف الناس به، لذلك لم نغفل المرور بها والحصول على رأيها.
عضو المجلس البلدي للمحافظة الجنوبية، علي المهندي، رأى أن من أسهم في مشكلة تحويل الشوارع السكنية العامة إلى شوارع تجارية، جهات عدة وليست جهة واحدة، وفي ضوء ذلك قال: هناك أخطاء تتحملها وزارة شؤون البلديات، إذ تم منح تراخيص لمحال تجارية في شوارع غير تجارية، من دون حتى الرجوع إلى المجالس البلدية في هذا الأمر، وهناك مخالفات صدرتْ من الجهاز التنفيذي في البلديات، خلال الأعوام الماضية، كما إن هناك بعض القرارات غير الصائبة بخصوص هذا الموضوع، أقرتها المجالس البلدية، ثم اكتشفنا بعد إعطاء التراخيص لها أنها كانت غير سليمة.
ورأى المهندي أن أعداد الشوارع التجارية في الرفاع الغربي، مثلاً، قليلة ومحصورة، وغير مزعجة لأهالي المنطقة، لكن هناك من الشوارع التجارية في محافظة المحرق والوسطى أُقرت بصفة غير مدروسة.
ويعرف المهندي، كما يعرف المواطنون، أن الشوارع التجارية تدرّ أرباحاً على المؤجرين من المواطنين، وعلى أصحابها، وهل يجوز أن يُبنى الرزق على راحة الناس الآخرين؟
لكن يا عضو المجلس البلدي، هناك استثناءات في إعطاء التراخيص، كما ذهب إلى ذلك من تحدث قبلك، فماذا تقول؟
أجاب المهندي: ليس من حق المجالس البلدية ولا حتى وزارة البلديات، استثناء أحد من المواطنين، سواء فيما يتعلق بإعطاء الرخص أم المنع، فالشارع إما أن يكون تجارياً فتمنح التراخيص للجميع، أو أن يكون سكنياً فلا يجوز إعطاء أي مواطن ترخيصاً للعمل فيه، لكن ما نعرفه نحن، أن هناك مباني بالكامل أنشئت للنشاطات التجارية بتراخيص مشبوهة.
ورأى المهندي، كذلك، أن المشكلة الرئيسة هي عدم تصنيف المناطق تصنيفاً دقيقاً، بحيث تكون هذه المنطقة سكنية وتلك تجارية، مما أدى إلى تداخل التصنيف والمناطق.
وليس هذا فحسب، بل يؤكد المهندي أهمية مراقبة الشوارع التجارية الحالية وتطويرها وتخليصها من الفوضى الحاصلة جراء تركها من دون متابعة، ولعل أقرب مثال على ذلك يستشهد به المهندي هو شارع الشيخ حمد بالرفاع، حيث الإزعاج والفوضى أصبحا عنواناً واضحاً له.
آراء مقنعة ولكن...
قبل أن نذهب إلى مجلس النواب، حاولنا استقراء آراء أصحاب المحال التجارية في الشوارع التي يشتبه بتصنيفها لحد الآن، لكن هؤلاء في البداية رفضوا الحديث، لكن بعد الإلحاح عليهم، تحدثوا شريطة عدم ذكر أسمائهم.
أبو علي، وهو صاحب متجر لبيع الملابس الجاهزة قال عن مشكلة المتاجر التي تتوسط الأحياء السكنية: إنني في الحقيقة لا أسبب أي إزعاج للأهالي، فمحلي ليس كراجاً أو ورشة مزعجة، بل هو محل صغير لبيع الملابس الجاهزة، ومعظم أهل المنطقة يأتونني لشراء ما يحتاجونه من الملابس، ولو كنت ضيفاً مزعجاً وثقيلاً، لقاطعني أبناء المنطقة للشراء وامتنعوا عن الشراء من متجري.
أبو سارة، شاب يبيع الهواتف النقالة قال لنا: إنني لم أخالف في طريقة استخراجي لترخيص التجاري، وكذلك المحل الذي أنا أبيع فيه، مرخص أيضاً من وزارة البلديات، فالسجل والمتجر والبضاعة كلها خاضعة لمستندات رسمية، وعليه لا يمكن لأحد أن ينتقدني أو أن يغلق متجري.
وأضاف أبو سارة: صحيح أن المحال التجارية في وسط الأحياء السكنية تسبب نوعاً من الزحام المروري وشح في مواقف السيارات، لكنها أيضاً تخدم أهالي المنطقة بصفة كبيرة، وربما يكون الإزعاج البسيط، ضريبة للمنفعة الحاصلة وراء محالنا التجارية، وأنا ربما أتفق معكم على أن بعض النشاطات التجارية لا تصلح أن تكون في أماكن سكنية، مثل المصانع والمخازن الكبيرة والكراجات والورش، وكل ما من شأنه أن يسبب إزعاجاً مستمراً لراحة الناس، أو يشكل خطراً على حياتهم.
ربما يكون كلام التجار مقنعاً إلى حد ما، لكن في إطار ضيق، فالشارع السكني سيظل للسكن، أما الشارع التجاري فإنه لا يمكن أن يتوسط أحياء سكنية بالكامل.
المشكلة في التطبيق
كيف ينظر النواب إلى مشكلة التصنيف ومدى تطابقه مع الواقع؟
النائب حسن الدوسري أكد أن هناك بالفعل، ما يسمى اليوم بظاهرة (تداخل التصنيف) والذي هو نتاج التخبط وعدم وجود مخطط هيكلي للبحرين، أو ربما هو موجود، لكنه لم يقدم إلى النواب للإطلاع عليه، فالمخطط الهيكلي للبحرين، يحدد مسار حركة المناطق بشقيها، السكني والتجاري، فلو كانت هنالك مخططات معتمدة، لما حصل ما حصل من تداخل في التصنيف.
وضرب الدوسري مثلاً على ذلك، بمنطقة الحورة المتاخمة لشارع المعارض التجاري، الذي بسبب ازدحامه الهائل واليومي، اضطر الكثير من أبناء الحورة إلى الهجرة الجماعية خارج مناطقهم طلباً للراحة والاستقرار.
هذه الفوضى غير الخلاقة في تداخل التصنيف، يعود سببها، كما رأى النائب حسن الدوسري، إلى وجود محسوبيات في إعطاء التراخيص التجارية الممنوعة للأفراد، وهذا الأمر أسهم فيه حتى قسم من أعضاء المجالس البلدية.
وأشار الدوسري إلى أنه لا يجوز لأجل مصلحة شخص واحد، ضرب راحة المجتمع واستقراره وأمنه عرض الحائط.
وقال الدوسري: في اعتقادي أن هناك تخطيطاً وتصنيفاً صريحاً لدى وزارة البلديات، ولكن المشكلة هي أن الجهات المختصة لا تلتزم بتطبيق القوانين على الجميع، وبالنسبة لتبني مجلس النواب هذا الملف المهم، فإننا سنحاول طرحه بصيغة قانون، لأن القانون لا يمكن لأحد أن يغيره. أما القرارات الوزارية فإنها تتغير بسهولة وهي غير مجدية مع تقادم الأيام، ونحن في دور الانعقاد المقبل سننظر إن شاء الله في هذا الملف، وسنتبناه لا محالة.
قبل أن نودع الدوسري، أكد لنا أنه ليس ضد الكسب والاسترزاق، وليس ضد إنشاء شوارع تجارية، لكنه ضد كل مشروع غير منظم أو لا يخضع لضوابط ومعايير واضحة.
ها هو الآن ملف الشوارع التجارية غير المنظمة التي تشق قلب المناطق السكنية بين يدي المسؤولين، وهو الملف الذي يؤرق الكثير من المواطنين، والذين يرجون أن تجد له الدولة حلاً سريعاً ومنظماً، فهل من مطلع؟