ميدل إيست: لم يحظ «المكان» في الأدب العربي بما خطيت به عناصر الأعمال الإبداعية الكتابية الأخرى من دراسات ورؤى نقدية، لقد ظل المكان «معتماً» على الرغم من أنه يكاد يكون قاسماً مشتركاً أعظم في كل عمل إبداعي كتابي. ورغم أن «المكان» قد يكون البطل المطلق في بعض الروايات والقصص، وتبرز خصوصيته و»عبقريته» في أعمال روائية كثيرة، فهو بطل على جواد أدهم في رويات: «زقاق المدق، خان الخليلي» عند نجيب محفوظ، وفي «البلدة الأخرى» لإبراهيم عبدالحميد، و»ثلة الملائكة» لسعيد الكفراوي، و»قهوة المواردي» لمحمد جلال. في بعض الأحيان قد يكون «المكان الإبداعي» مجرد عامل مساعد، لكنه يحتفظ بأهميته وجوهريته في جعل العمل الإبداعي يأخذ أبعاده كاملة، فلا إبداع خارج المكان، فماذا قال المبدعون والنقاد عن «الأمكنة» في إبداعاتهم؟ نقيض المكان هناك نظرة نقدية تقول إن الرواية العربية قامت بدءاً على شقي «الحدث والفاعل»، وهناك دائماً شخص يفعل وحدث يقع، لذا جاءت تسميات المكان مواكبة لهذه النظرة النقدية مثلما هو الحال في «بين القصرين» أو «زقاق المدق»، ما يعني أن «المكان» حضور رغم أنف هذه النظرة النقدية. والأحداث التي تقع على مسرح ـ مكان ـ «بين القصرين» لو أنها نقلت إلى مكان آخر فلن تصبح هي ذاتها، وقد يتغير سلوك فاعليها ولو كانوا الشخوص ذاتهم، سيظل «السيد» و»الزوجة» هما ذاتهما، لكن ردود أفعالهما ستختلف تبعاً لاختلاف المسرح، ليمكن القول إن المكان هو ذلك العنوان المشار إليه». بتطور «فن القص» احتل المكان مكانه في نسيج العمل الإبداعي، ودخل بعنف في تكوين السياق العام للنص، فحينما تشرق الشمس يجب أن تشرق - بشكل خاص - على هذا المكان، نحن لم نخترعه، لكن هناك من وصل إليه قبلنا، وصلوا في «جسر على نهر درينا» للروائي اليوغوسلافي «آيفو أندريتش»، و»أمسيات قرب قرية ديكانكا» لنيكولاي غوغول. أما في الأدب العربي الحديث، فقد كان المكان بطلاً، ولكنك تستطيع فصله نقدياً عن الأحداث وهي في سريانها، وتأكد دوره من خلال تضافره مع الحدث والمشاركة في صياغته. يعني أن هناك أماكن تكتسب خصوصيتها من خصوصيات الحدث، فراوية «فساد الأمكنة» لصبري موسي بطلها المكان، حيث إنك لو خلعت الحدث من هذا المكان لفقد فاعليته، وهي عمل جيد يطرح خصوصية المكان وكذلك رواية محمد مستجاب «ديروط الشريف». مصرع المكان في التراث يدعو الناقد د. مدحت الجيار إلى الاتفاق على تلازم المكان والزمان، وأنه لا زمان بلا مكان، فالزمان هو قرية المكان، وعلى مستوى الإبداع كل زمان يتحرك فيه شخص ما في مكان ما، إذن فالمكان شرط إبداعي، ولكنه في بعض الأحيان يتحول المكان إلى بطل ونموذج ونمط، وإلا فلماذا يسمي نجيب محفوظ «زقاق المدق، خان الخليلي، بين القصرين»..؟ لأن هذه الأماكن هي بطل يقف في مواجهة التحديات الجديدة، لذا فإن التنبه للمكان يعني في جوهره التنبه للزمان، ولعل من بين الأعمال التي تتمتع بخصوصية شديدة في أماكنها «فساد الأمكنة» لصبري موسى، و»عطفة خوخة، قهوة المواردي» لمحمد جلال و»مالك الحزين» لإبراهيم أصلان، و»ديروط الشريف» لمحمد مستجاب. مكان المنسي ويقول الروائي محمد المنسي قنديل: «أؤمن دائماً أن الأدب الجيد له جغرافياً جيدة، وما لم تستطع أن تعرف المكان الذي ستدور فيه روايتك، فلن تستطيع أن تعرف حدود شخصياتك، ذلك أن الإنسان يتشكل بالبيئة المحيطة به، وليس بالضرورة أن يكون المكان الموجود في العمل الفني هو ذلك الموجود في الواقع، فالقاهرة في أدب نجيب محفوظ قاهرة مليئة بالضباب، والحواري فيها معتمة، مليئة بأشخاص غير موجودين حالياً، مثل الفتوات والحرافيش والدراويش، فهي شيء مختلف تماماً عن القاهرة التي تسطع فيها الشمس كل يوم، والتي تجدها في الواقع». ويضيف قنديل أنه يعتقد أن قاهرة نجيب محفوظ أكثر واقعية، ما يدل على القيمة الفنية للمكان، وكيف يمكن أن تفوق قيمته المتخيلة القيمة الواقعية له، ومنذ أن كتب الكاتب الإنجليزي سونيت «جيلفر في بلاد الأقزام»، أدرك كل كاتب أنه يجب أن يكون له عالمه الخاص به، وأن عليه أن يضع حدوداً لهذا العالم وهذه الأرض، لأن كل أديب مطالب أن ينشئ مدينته الخاص، وبدون المكان فإن الأحداث تدور في فراغ متعمد. وأنه يعتقد أنه أهتم جداً بالمكان في روايتيه «انكسار الروح»، ورسم ملامح مدينته الخاصة، ولم ينته به الأمر إلاّ وقد رسم حدود مدينة كاملة كما رسمها «وليم فولكنر» في أعماله. سعادة مكانية أما الروائي يوسف القعيد فيقول: «ما إن أبدأ القراءة وأكتشف أن المكان غير محدد، أو افتراضي، تقل سعادتي إلى النصف، لأنني أعتقد أن النص الروائي يقدم بشراً يتحركون في زمان معلوم ومكان محدد، وأن الخروج عن أحد هذين العنصرين يفقد النص الروائي ركيزة أساسية، وهناك روائي قليل الإنتاج ضخم التأثير تكمن فرادته في علاقته بالمكان وهو «إيفو أندريتش» الذي قرأنا له «جسر على نهر درينا» و»وقائع مدينة تراباك». ويضيف القعيد: إن ما جعل أدب «نجيب محفوظ « جزءاً أساسياً من وجدان المصريين هو طبيعة علاقة إبداعاته بالمكان، وأنه على الرغم من قدومه من بيئة ريفيه «قرية الضاهرية» مركز إتاي البارود بالبحيرة بمصر، لكنه في أكثر من عمل سمى الأماكن بأسمائها، لأنه يعتبر الدوران حول فكرتي الزمان والمكان نوعاً من الهروب. ويواصل: «لقد تطلعت إلى رسم ما أسميه «جمهوريتي الخاصة»، سواء من قصة «البيات الشتوي» أو من خلال أعمال أخرى، إن ما كتب عن المكان نادر إلى أن جاء «غالب هلسا» بعد سنوات طويلة، وترجم كتاب غاستون باشلار «جماليات المكان» وألان روب غرييه في «نحو رواية جديدة». الإسكندرية وعين المكان يقول القاص والروائي إبراهيم عبدالمجيد إنه قرأ العديد من الدراسات حول أهمية ودور المكان وخصائصه كما ورد في الأدب الأجنبي، لكنه لم يقرأ حتى الآن دراسة وافية ومعقولة حول خصائص المكان في الأدب العربي، على الرغم من فاعليه المكان في الرواية العربية. ويضيف: «بدون المكان يفقد الزمان فعاليته، لم أقرأ دراسة تبرز شخصية المكان، حيث الأحلام والأساطير والمواقف، والسؤال: أين نجد المكان على هذه الصورة؟ إن هذا المكان موجود في بعض الأعمال التي تنتقي الأجواء الأسطورية أو الشعبية وأجواء الحكمة القديمة مثل «الماجوس» أو «الريش» أو «مدن الملح». ويقر بأنه تأثر برواية «صحراء التتار» لدينو بوتراتزي، على الرغم من أنها رواية صغيرة الحجم، ويضيف، لكنها رواية مكان حيث التأكيد على معناه وفعاليته في النص، فالضابط فيها يظل معتصماً بالقلعة الموجودة في الصحراء والتي تحمي البلاد من هجوم التتار، إلى أن يكتشف أنه أهدر عمره أسيراً لهذا المكان، وهنا تبدو العلاقة الفلسفية بين الزمان والمكان، وأنها علاقة وطيدة وضرورية، ولكنني في نفس الوقت أرفض محاولات ترميز المكان وجعله مثلاً معادلاً للأرض والوطن المسلوب - مثلاً - فهذا ليس مدلولاً فنياً وإنما مدلولاً سياسياً وأبعد ما يكون عن القيمة الجمالية لمدلول المكان. ولكن عندما يكون المكان مؤثراً ومساعداً في تطور ونمو الحديث والشخصية يصبح له قيمة فنية، وأتصور أن التعامل الإبداعي مع المفردات الصغيرة للمكان يسهم في تشكيل الشخصيات والشخصيات تتطور بدورها، بناءاً على تصاعد الحدث وتواتره في هذا المكان الذي لم يعد بعيداً عن الفعل الروائي. ويزعم عبدالمجيد أن له أعمالاً تعامل فيها مع المكان بهذه الخصوصية مثل «الصياد واليمام، المسافات، البلدة الأخرى»، حيث العلاقة القوية بين المكان وتاريخ الشخصيات، لأنه نشأ في أماكن لها شخصيتها المستقلة، وهويتها، في الإسكندرية التي تتمتع بسحر العلاقة والتعامل مع البشر. في تلة الغجر ويرى القاص والروائي محمد المخزنجي أن المكان بما يعنيه من تنظيم للفراغ يمكن أن يؤدي أدواراً مختلفه جداً، فقد يأتي على صورة بطل أو رمز، وبالتحديد الملمح المعماري للمكان لا يعطي فقط دلالات فنية وقصصية، وإنما يردك إلى فترات تاريخية تشي ببعد إنساني يتقابل مع البعد الفني للعمل الروائي بالنسبة لي، فقد أنجزت مجموعة من القصص تدور حول الخوارق، حيث المكان نوع من الظلال الحُلمِية، ولدى الحالم والطفل والمجنون ثمة تخلص من عنصري الزمان والمكان بمفاهيمها التقليدية، ولكنها يتمتعان بحضور مغاير حيث يتشابه الزمان والمكان، ويستحيلان إلى حالة حُلمية ويصبحان أقرب ما يكونا من الفانتازيا منهما إلى الواقع. ومن ثم فإنني أرى هذه الرؤية لعنصري المكان والزمان معاً اتجاهاً فنياً في حد ذاته، بدأ التعامل معهما بهذه الصيغة أدب أمريكا اللاتينية، وأتصور أن الآتي هو المكان الحلم وليس المكان المحسوس المتعين، سيكون مكاناً تخيلياً مركباً من عناصر قد لا يكون لها وجود في الواقع على الإطلاق - وكنموذج لذلك - في إحدى قصصي التي نشرت مؤخراً، وصفت قلعة حلب ولكنها ليست قلعة حلب، ورسمت الأسواق القديمة في حلب، ولكنها ليست هي نفس الأسواق، ولكن هذا لم يعن على الإطلاق أنني أسقطتُ فعالية المكان ودوره الموازي لما هو موجود في الواقع، على مستوى المخيلة الإبداعية.