انطلق مع سعد في إحدى الغزوات رضي الله عنه وأعطاه سعد كتاباً إلى ملك الأعداء، وقال: انطلق به إليه. وينطلق ربعي فلما جاء إلى قصره نظر الناس إليه؛ ترون أن كثيراً من المحلات لا يدخلها الناس إلا بصفة معينة، وإلا فلا يسمح له بالدخول، وإذا به بيت ملك من ملوك العجم، نظروا إليه وإذا ثيابه مرقعة، وكان أسمر فارع الطول رضي الله عنه، ومعه رمحه، ليس مؤهلاً لأن يدخل، لكن معه العقيدة ستدخله على رغم أنوفهم، قالوا له: أعطنا الكتاب نحن نوصله إلى الملك؟ قال: إن أميري أمرني أن أوصله إلى يده. قالوا له: إذا تأتي بسلاحك فلا تدخل به. قال: ولا أدخل إلا بسلاحي وإلا رجعت. فيدخلونه إلى بلاط الملك، وكلكم يعلم ما في بيوت الملوك من الأبهة وغيرها، فيها الحرير والديباج والرخام وغير ذلك. دخل ربعي رضي الله عنه وأرضاه. أهو كحالنا إذا دخلنا ننظر إلى السقف وإلى الفرشات، وننظر يمنة ويسرة فتنبهر قلوبنا؟! كلا. انطلق بكتابه وهو يمشي إلى ذلك الملك، ثم يعطيه الكتاب ويسأله: لم جئت؟ جاء بعقيدته من جزيرة العرب يغزو بها، يقول: جئت لأخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. جئنا لنخرج الناس من عبادتك أيها الملك فإنك لا تستحق العبودية، ليعبدوا لهم رباً يقول للشيء: كن فيكون، برب يكلأ الخلق بالليل والنهار سبحانه وتعالى. وجئنا لنخرجهم من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة. إنك أيها الملك وما معك من المتاع والعدة وغيره والله إنك لفي ضيق، وما وعدنا النبي صلى الله عليه وسلم بالآخرة لهو السعة، ولا ننظر إلى دنياك. هذا هو رجل العقيدة. ثم يسأله الملك ويقول له: كم في جيش الإسلام مثلك؟ قال: إني قد خلفت في جيش الإسلام آلافاً مثلي. قال الملك: والله ليملكن ما تحت قدمي هاتين. كلنا ننظر إلى الأبهة وما أعددنا، إنه رمح وأسلحة يسيرة، لكن معهم العقيدة يغزون بها في كل مكان. إذا: نحن في حاجة إلى عقيدتنا أشد من حاجتنا إلى العتاد وغيره، وليس معنى ذلك إغفال العتاد، بل لابد منه بمقتضى قول الله: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) الأنفال:60. مثال آخر ولعلكم سمعتموه، وهي قضية المساومة على العقيدة. عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه وأرضاه؛ هو رجل العقيدة، رباه المصطفى لعقيدة يدافع عنها في كل مكان، خرج في عهد عمر بن الخطاب فأسره الروم مع بعض الجنود، وأخبر الملك أن فيهم عبدالله بن حذافة شخصية نادرة، وهو ممن رأى النبي ورباه المصطفى صلى الله عليه وسلم. قال: ائتوني به لأرى كيف تربية هذا الرسول. وجيء بـعبد الله بن حذافة، فقال له الملك: أعطيك نصف ملكي وترجع عن دين محمد وتكون على ديني. فماذا يقول رجل العقيدة؟ يقول: لو أعطيتني ملكك كله وملك العرب عليه ما رجعت عن دين محمد طرفة عين واحدة. الله أكبر! كيف يعتزون بعقيدتهم؟!! ولا يتنازلون عنها في الشدائد والرخاء، عقيدتهم معهم، تمشي وتسري معهم؛ لأنها تتحرك في الجسد كتحرك الدم. انطلق إلى أسلوب ثانٍ: صلبه على خشبة وجاء بالرماة وقال: ارموه يمنة ويسرة علَّه يخاف ويرجع عن عقيدته، يرمون السهام تمر أمام عينيه وبين جسده ويقال: أترجع عن دين محمد؟ قال: لا. من قال إنني سأرجع. ما خرجت إلا لأدافع عن عقيدة محمد، وعن دين محمد صلى الله عليه وسلم. ثم يأتي أسلوب أشد: يوقد قدرين ويضع فيهما الزيت فيغلي الزيت، ثم يؤتى بأسيرين من المسلمين، ثم يلقى أحدهما في الزيت فيتفسخ لحمه عن عظامه، وعبدالله بن حذافة ينظر، ثم يلقى الثاني أمام عينيه فيقال لـعبدالله: ترجع عن دينك وإلا ألقيناك مثلهما؟ ويذهبان رضي الله عنهما شهيدين برحمة أرحم الراحمين، ثم يجر عبدالله بن حذافة ليلقى، فلما قرب من القدر ذرفت عيناه بالدمع، فقالوا: لعله خاف، لعله يريد أن يرجع، فسأله الملك فقال له: هل ترجع عن دين محمد؟ قال: من قال لكم إني سأرجع. قالوا: إذاً لماذا بكيت؟ قال: تذكرت أنها نفس واحدة تلقى في القدر فساعة ثم تنتقل إلى الرفيق الأعلى، وتمنيت أن لي أنفساً عدد شعر جسدي تلقى في القدر واحدة تلو الأخرى. الله أكبر! أين يوجد ذلك إلا في عقيدة التوحيد؟ هذه عقيدتنا التي دائماً نُنادي المجتمع كله فنقول: لنرجع إلى عقيدتنا، لنحيا حياة أولئك الأبطال رضي الله عنهم. حبيب بن زيد رضي الله عنه يقطعه مسيلمة الكذاب ويقول: تتبعني. قال: لا، والعجب منهم رضي الله عنهم أن عقيدتهم تجعلهم يتحملون الشدائد فما يبكون! أحدنا لو ضربت يده أو جرحت إصبعه طلب إجازة، وترك العمل أسبوعاً أو شهراً، وذهب للإسعاف مخافة أن يموت، أولئك تأتي جراحاتهم ضخمة رضي الله عنهم، ولكن العقيدة تصبرهم وتربط على قلوبهم فما تذرف أعينهم دمعاً. صحابي يخرج في الجهاد رضي الله عنه ويضربه أحد المشركين، وتظل يده متدلية بقطعة لحم، ويمشي بها سائر النهار يقاتل، فلما أثقلته وضعها تحت قدمه فقطعها ثم يكمل الجهاد في سبيل الله. أليس فيه عروق وشرايين ويخشى عليه الموت؟! هو خرج بنفسه كاملة لتموت، لم يرد هذه اليد لتقطع فقط، بل جاء برقبته لتستأصل في سبيل الله. الله أكبر! هذه عقيدتنا التي ندافع عنها.