تحقيق - طارق مصباح: ساعات طويلة يقضيها سلمان ناصر (10 أعوام) مع هاتفه المحمول، فهو يجري اتصالات تارة، وينشأ ضمن لعبة خاصة صوراً يحركها تارة، ويقضي وقته في عالم الأفلام تارة أخرى..! والعشريني صادق محمد يقول: أجلس مع أسرتي بعد الغداء ولكن لا أحد يتكلم مع الآخر، أحتاج في أحيان كثيرة أن أحدثهم عن بعض الأحداث التي مرت بي في الجامعة، ولكني أجد الجميع مشغولاً بهاتفه الخلوي... أما الأربعينية أم عبدالله فتجد في هذه الهواتف العديد من الإيجابيات وطريقاً سهلاً للاستزادة المعرفية وتكوين الحصيلة الثقافية، ولا يقتصر ذلك على الأطفال فحسب، بل على الكبار أيضاً، موضحة أن الساعات تمر ولا يشعر بمرورها من يمسك بهذا الجهاز. ولكن أم عبدالله اعترفت أن هذه الأجهزة خلقت عزلة اجتماعية وشكلت فجوة بين الأجيال، فهل هذا هو الواقع حقاً؟! القطيعة الاجتماعية تذكرت وأنا أعد هذا التحقيق ما قاله الدكتور عبدالستار الراوي وهو أستاذ فلسفة إن “العالم الذي نعيشه عالم افتراضي والعالم الذي نعيشه مع الإنترنت والأجهزة الحديثة هو العالم الحقيقي”. ولكن هل يعني أن ما يقوله الدكتور الراوي أن الإنسان وهو الحيوان الاجتماعي سيتحول إلى حيوان غير اجتماعي؟ عندما نقلت ذلك إلى رئيس قسم علم النفس بجامعة البحرين الدكتور شمسان المناعي قال: على الرغم من أن وسائل الاتصال لها إيجابيات عدة، ولكن اسمح لي أن أبيّن أن سلبياتها كثيرة، إذ أصبحت أداة تهدد العلاقات الاجتماعية والإنسانية بين أفراد الأسرة والمجتمع! وأضاف: أنظر يا أخي.. لا بد في التواصل مع الآخرين من نقل الأفكار والأحاسيس والمشاعر، وسوء استخدام الهواتف النقالة في البيت والمجالس أدى إلى خلق قطيعة اجتماعية بالرغم من أن الجميع يجلس في مكان واحد ولكن هناك مشكلة ما في التواصل مع الآخر. ويشير المناعي إلى وجود غير مؤثر للأشخاص في تجمع ما، وهذا ما نرفضه لأنه ليس من أخلاقيات مجتمعنا البحريني العربي المعروف بأخلاقه الاجتماعية وتواصله العميق مع الجميع. عندنا «إدمان» هواتف!! سأعود لأكمل ما تبقى من حديثي مع الدكتور شمسان المناعي بعد أن ألتقي أستاذة العلوم النفسية والاجتماعية بجامعة نيويورك الدكتورة عائشة الشيخ التي دخلت إلى أعماق فلسفة نفس من يستخدم أجهزة الاتصالات متجاهلاً الاتصال بمن حوله أولاً! وسألتها: هل رأيت هذه المشاهد بهذه الدرجة في الدول الغربية؟! أجابت: ليس إلى هذه الدرجة.. نحن عندنا إدمان! وترجع الشيخ سبب هذا الإدمان إلى سببين رئيسيين، أولهما إغراق السوق بأجهزة الاتصالات، مبينةً أننا كعرب وخليجيين نحب اقتناء هذه التكنولوجيا ودائماً ما نربطها بفكرة الذات، مشيرة إلى الفكرة السائدة عندنا عند اقتناء أحدث أجهزة الاتصال: انظروا لي أنا إنسان متحضر ومن أسرة راقية وهذا الفعل يغذي النفس بشعور جيد مع النفس!! وأضافت أما السبب الثاني فهو سهولة الوصول إلى هذه الأجهزة في الوقت الحالي والحصول عليها مع كثرة التسهيلات المقدمة لاقتنائها مع وجود ميل لدينا كخليجيين لمسايرة ما هو جديد من خلال تقليد بعضنا بعضاً لدرجة أن الصغار أصبحت لديهم أحدث أجهزة الاتصالات!! وتكمل الشيخ: نحن كخليجيين نعد مستهلكين، كما إن الأحداث الأخيرة التي شهدتها العديد من الدول العربية أدت إلى التسارع في شراء أجهزة الاتصال الحديثة لدى الكثيرين لمتابعة آخر الأخبار. لعل ما ترمي إليه الدكتورة عائشة الشيخ هو شعورنا ببعد وقطيعة عن متابعة آخر المستجدات العربية والعالمية، ولكن ماذا عن تواصلنا مع بعضنا في المجالس نفسها التي نكون موجودين فيها؟! ماذا يحدث في المجالس؟ التقيت رئيس مجلس العائلات البحرينية جاسم بوطبنية فأكد لي وجود هذه القطيعة الاجتماعية في العديد من المجالس وقال : نعاني من هذه المشاهد كثيراً، وهي مشاهد مكررة، يجلس الجميع في صالة المجلس ويتبادل بعضهم الحديث وربما ألقيت كلمة للنقاش حولها، بينما بعضهم مشغول بالـ«شات” أو “المسينجر” أو “الواتس أب” وربما الاستماع إلى أحدث الأغاني أو الأفلام”!! بوطبنية أكد أن تلك المشاهد تعبر عن لا مبالاة هؤلاء بما يدور في المجلس من نقاش. وعلى الرغم من إقرار بوطبنية بالإيجابيات العديدة لهذه الأجهزة في التواصل إلا إنها تحتاج إلى مزيد من الوعي لمستخدميها. ليس عند شبابنا فقط! رئيس جمعية المستقبل الشبابية صباح الزياني دافع عن شباب المملكة وعدهم جزءاً من المنظومة الشبابية العالمية وأن ما يفعلونه يشترك فيه معهم شباب العالم أينما كانوا، وقال: لعلنا أخذنا سلبيات هذه التقنيات التكنولوجية وغفلنا عن إيجابياتها، فأصبحت لدينا عزلة اجتماعية، وهذا يخالف قيمنا الإسلامية الخليجية. ولكن الزياني أوضح أن هذه القيم الأصيلة التي تربينا عليها لا بد أن ترجعنا إلى أخلاقنا الجميلة التي تحثنا على التواصل وتجنب العزلة الاجتماعية وتدعونا إلى التواصل الاجتماعي. ضعف التواصل والاستياء أعود لمن بدأت معه الحديث في هذا التحقيق، فقد ذكر لي الدكتور شمسان المناعي أن الكثير من الأسر فقدت سيطرتها على أبنائها في التحكم في استخدام هذه الهواتف، وتعدت هذه المجالس كما رأينا إلى المساجد ودوائر العمل، وقال : إنها “تُشعر الطرف الآخر بعدم الاهتمام، مما يخلق حالة من الاستياء وضعف التواصل والتأثير بين أفراد المجموعة الواحدة”. وقبل أن نشرع بذكر علاج هذه الظاهرة الآخذة في الاستفحال في مجتمعنا حدثني المناعي عن مشهد آخر حدث فيه هذا “التجاهل” ولكن في مكان لا يخطر على بال! وقال : كنت في زيارة لمريض في مستشفى فإذا بي أرى مجموعة تتحلق حول أحد المرضى ويمسك كل منهم بهاتفه الذكي ويبحث فيه طوال مدة وجودهم مع ذاك المريض الذي ينبغي أن وجودهم بينه جاء للتخفيف عنه ومسامرته ولكي يشعر بالأنس معهم، ولكن للأسف.. حدث العكس!! حتى المساجد لم تَسلم! هذه المشاهد تعدت المجالس إلى بيوت الله تعالى، قصة لا تخلو من الطرافة ذكرها لي خطيب جامع يوسف كانو بمدينة حمد الشيخ جلال الشرقي وهي أنه عندما كان أحد المقرئين يرتل إحدى سور القرآن بعد صلاة العصر والناس خشوع حوله إذا بأحد الحضور ينشغل عن هذا الجو الروحاني بهاتفه الخلوي ويعبث ببرامجه فما كان من هذا المقرئ إلا أن يوقف ترتيله ويوجه إليه نصيحة بضرورة العمل بالآية الكريمة “فاستمعوا له وأنصتوا!” الشرقي يرى أن الهواتف الذكية نعمة من نعم الله قرَّبت المكان والزمان واستفاد منها الناس في التواصل في شتى مجالات ومناحي الحياة. وذكر الشرقي أنه شاهد الكثير من الصور الاجتماعية غير الصحيحة عندما يلتقي أفراد الأسرة في غرفة الطعام أو المجلس بينما ينشغل رب الأسرة أو الأم والأبناء كلٌ بهاتفه في جو أسري سلبي..! حرمان من حق التواصل هذه الصور السلبية في الأسرة أوجدت مشاكل لم تكن موجودة سابقاً، بينها خطيب جامع جو الشيخ حمد الدوسري بقوله : “الانشغال بالهواتف الذكية بين أفراد الأسرة يجعل الحوار معدوماً بين أفرادها، ويحرم الأبناء والزوجة من حق التواصل مع الزوج المنشغل دائماً بهاتفه، فيسود جو من الصمت المطبق وجو من القطيعة الأسرية”. وأوضح الدوسري أن الله تعالى استرعى الوالدين على أبنائهما والانشغال بتلك التكنولوجيا عن الأبناء حرمهم من سماع الكلمة الطيبة سواء كانت موعظة أم قصة أم دعابة بين الوالدين وأبنائهما. أبواب الشر قريبة للتركيز أكثر حول آثار هذه القطيعة الاجتماعية التي أحدثها سوء استخدام أجهزة الاتصالات التقينا رئيس مركز الأسرة والطفل بجمعية التربية الإسلامية الشيخ زياد السعدون الذي رصد العديد من الحالات الاجتماعية التي عصفت بعدد من الأسر وكادت تفصل بين الزوج وزوجه، وقال : إن الانشغال بالهواتف الذكية فتح باب الشر بين الزوجين، وقلة الحوار والفضفضة جعل من أفراد الأسرة “تماثيل صامتة” وتحول معها البيت إلى مكان رسمي للعلاقات الاجتماعية فلم يعد معها للحياة الزوجية طعم أو لذة وفقد معها الأبناء حنان الأم وعطف الأب لأن فرصة اللقاء الاجتماعي والتحاور والمشاركة فُقِدَت! «الخلوي».. تعليمي بشروط من جانبه، يشير رئيس رابطة شركات الألعاب الإلكترونية الأردنية مؤسس شركة ميس الورد للألعاب المهندس نور خريس، إلى أن المعايير التي تم اعتمادها عند إنشاء تطبيقات الألعاب للأطفال تهدف إلى جعل جهاز الخلوي “برنامجاً تعليمياً تثقيفياً ترفيهياً”. وقال: إن تلك التطبيقات تعتمد على أمرين مهمين، هما سهولة استخدام الأطفال للعبة، وسهولة اطّلاع الأهل على مدى استفادة الطفل من اللعبة. ويضيف خريس أن وجود الهواتف الذكية والهواتف التي تعمل بتقنية اللمس جعل الأمر أكثر سهولة، منوهاً إلى أن هناك ألعاباً يمكن للطفل ذي الثلاثة أعوام أن يلعبها. وتساعد هذه الألعاب، وفق خريس، على تحفيز قوة الملاحظة لدى الطفل، كما إنها تساعد على تعليمهم الأحرف والتمييز بين الأشكال، بالإضافة إلى المعادلات الحسابية التي تعمل لتنشيط الدماغ، مؤكداً أن تلك الألعاب لا يعمل على ابتكارها المبرمج فحسب، بل تتم الاستعانة بفريق متخصص من أخصائيي التربية يساعد في اختيار الألعاب التي تهم الطفل ويمكن أن تفيده. ويردف خريس أن مثل هذا الأمر يخلق فرص عمل جديدة للمجال التربوي، جنباً إلى جنب مع المبرمج، لاختيار الألعاب بناء على ما يود الطفل تعلمه والاستفادة منه من تلك التطبيقات. مسببات «البلادة والهذيان»! بيد أن اختصاصي علم النفس الدكتور جمال الخطيب يرى أن ممارسة الطفل لتلك الألعاب تجعله في حالة قريبة من الإدمان، لأنه يتعود عليها لمدد طويلة، مشيراً إلى أن ممارسة الطفل لتلك الألعاب تسبب له نوعاً من العزلة الاجتماعية، فضلاً عن أنها تأخذ حيزاً من حياته وتقلل من تواصله الاجتماعي مع الآخرين. والاستمرار في ممارسة تلك الألعاب، بحسب الخطيب، يسهم بتقليل الرغبة لدى الطفل في التعاطي مع الناس فتحل محل الصديق والأخ والقريب، الأمر الذي يجعل منه إنساناً انطوائياً يميل إلى العزلة. القدرة النمائية إلا أن الألعاب الموجودة على الهواتف الخلوية ويمارسها الأطفال تحمل جوانب إيجابية وسلبية، كما يقول اختصاصي تربية الأطفال، الدكتور عماد الدين خضر، لأنها برأيه “تزيد من نسبة الذكاء لدى الأطفال، بالإضافة إلى زيادة القدرة النمائية من خلال التآزر البصري الحركي، منوهاً إلى أن الأطفال أكثر سرعة وحركة في تطبيق تلك الألعاب من الكبار. ويشترط خضر في هذه الألعاب أن يختارها متخصصون بصفة تربوية، إذ يساعد ذلك على اطلاع الطفل على التقنية وكيفية التعامل معها وعلى كسر حاجز الرهبة بينه وبين التقنية الحديثة، غير أن هذه الألعاب تحمل جانباً سلبياً وفق خضر، الذي وصفها بأنها تشجع الطفل على الفردية التي تعزز الذات وتبعده عن الألعاب الجماعية، كما تؤثر على النمو العقلي الحركي، إذ يكتفي الطفل بالجلوس طوال اللعب من دون أن يحرّك جسده، كما تسبب له نوعاً من “الهذيان الذهني”، أو “البلادة”، وهذا ما يحدث مع الأطفال في العصر الحديث، بحيث يكتفي الطفل بالجلوس في البيت وممارسة تلك الألعاب. الطريق إلى العلاج هذه العزلة الاجتماعية تحتاج إلى علاج، وأولى خطوات الحَل دائماً ما تبدأ من النفس، وإذا عُلِمَ ذلك فلا بد من اللجوء إلى المتخصصين، لذا وجدت من المناسب أن أبدأ بطلب رأي الشيخ حمد الدوسري الذي أكد ضرورة استشعار الأجر من الله تعالى من ولي الأمر عندما يحاور أهل بيته بدلاً من الانشغال عنهم بتلك الملهيات ليحقق تواصلاً ناجحاً، وثاني تلك الخطوات، دعا فيها الدوسري إلى ضرورة تنظيم الوقت وتخصيص أوقات لاستخدام التواصل عبر الهواتف وأوقات للأهل والأقارب، ثم توجيه الأبناء لتقنين استخدامهم لها، وانتهى إلى “استشعار الخطر المحدق في حال ضعف التواصل مع الأبناء والزوجة وقلة اللقاء الفكري والحواري معهم. وأكمل الشيخ زياد السعدون طريق العلاج محذراً من وجود العديد من الحالات التي وصلت إليه من خيانات أسرية نتيجة عادات دخيلة على مجتمعاتنا المحافظة، إذ أصبح الرجل يشمل في قائمته بعض النساء وبالعكس بالنسبة للنساء ويحدث ذلك بحجة أنهم أصدقاء “المجموعة”! محذراً من تلك المداخل. أما الشيخ جلال الشرقي فأكد على جانب تنظيم الوقت مبيناً أهمية التواصل مع الناس بهذه الوسائل الحديثة غير أنها يجب أن تستخدم بصفة لائقة لا تخل بجوانب الاحترام وتقدير الناس، مضيفاً أن الناس تحب من ينظر إليها عند التحاور معها وتستاء ممن يتجاهلها وينشغل بالحديث معها. وقدمت الدكتورة عائشة الشيخ وصفة علاجية دعت إلى النظر في عدم مواكبة قيم التكنولوجيا مع القيم الإنسانية، وقالت : في كل يوم يظهر اختراع جديد في مجال التواصل التكنولوجي، ولكن هل سألنا أنفسنا ما هي القيم التي نتعامل معها عبر هذه الاختراعات؟! واتفقت الشيخ مع ما سبق من ضرورة تقنين استخدام هذه الهواتف والاستغناء عنها مؤقتاً خلال اليوم أثناء مجالسة الأهل وفي الفصول الدراسية والمجالس مما يستلزم إرادة فردية وجماعية لكي نسيطر نحن على هذه التكنولوجيا ولا نجعلها هي من تسيطر علينا.. ودعت في الختام المربين والجهات المعنية إلى تقديم ثقافة معتدلة بشأن استخدام أجهزة الاتصالات الحديثة، وأنا أردد السؤال: هل يتحول الإنسان بسبب التكنولوجيا الحديثة إلى حيوان غير اجتماعي؟