كتب – المحرر الثقافي:
في كتابه “تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب” الصادر حديثاً عن دار الفارابي، بترجمة وتحقيق: رلى ذبيان، يقول د.جورج قرم: منذ سنين دراستي للقانون والاقتصاد في باريس، كنْتُ أتضايق كثيراً من النرجسية في الثقافة والعلوم الإنسانية الغربية ونظرة التعالي، بلْ والازدراء في كثير من الأحيان، بالنسبة إلى حضارات الشعوب الأخرى ومؤسساتها وعاداتها”...
ويضيف: “كما بدأْتُ أشعر بمدى توغُّل الشعور بالتفوّق الغربي لدى العديد من المثقفين العرب وتبنّيهم الطروحات الفكرية والإشكاليات الغربية في النظر إلى تطوّر التاريخ الإنساني دون ممارسة النقد في الطروحات التي كانت تقدمها الثقافات الأوروبية المختلفة حول عبقريتها وتفوّقها....
إشكالات أوربية مهيمنة
كان ذلك دافع د.قرم إلى كتابة هذا البحث الكبير “تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب”، الذي يطمح له أن يساهم “في التخلُّص من هيمنة المقولات والإشكاليات الأوروبية، الفلسفية والاقتصادية والسوسيولوجية المتوغلة فيها، ودخول ثقافتنا العربية في مرحلة بناء استقلال فكري يسمح بوضع نظام معرفي وقيَمي ومرجعي مستقل عن الصور النمطية المتبادَلة بين تخيُّلات الغرب حول الشرق وتخيُّلات الشرق حول الغرب؛ فتصبح ثقافتنا متجذِّرة فعلياً في الواقع العربي ومسيرته التاريخية التي هي بدورها تحتاج إلى مزيدٍ من البحث النقدي لكيْ نعي كعرب ماذا حلَّ بنا من تهميش في حياة الأمم وفي صنع الأحداث، بلْ من عدم الوجود، ابتداءً من القرن الحادي عشر”....
يؤمن د.قرم أن “البحث المعمَّق في واقع المسيرة التاريخية الأوروبية المعقَّد، ونقد جميع أنواع الخطابات الأيديولوجية حول تاريخ أوروبا قد يساعد في توضيح التاريخ العربي المعاصر نظراً لشدة تأثير التاريخ الأوروبي فيه؛ وهذا خصوصاً بالنسبة إلى الهيمنة الاستعمارية التي خضعت لها الأقطار العربية وأدوات تحديث مجتمعاتها المختلفة، المتأثِّرة باستيراد جميع أنواع العلوم الإنسانية من القارة الأوروبية”...
ماذا حصل للقارة الأوروبية
«في كتاب د.قرم سعيٌ حثيث إلى فهم ماذا حصل بحضارات القارة الأوروبية التي أنتجت أرقى أنواع الفنون والأدب، بشكل خاص في الحيِّز الموسيقي والرسم، كما وأنتجت أبشع أنواع العنف الفتاك، سواءً في حروب القارة الداخلية أم في حروبها الخارجية”.
حيث سعى في هذا السياق إلى “فهم الآليات الذهنية الأوروبية التي أدَّت إلى معاداة السامية تجاه اليهود وإلى المجازر الشهيرة ضدهم خلال الحرب العالمية الثانية”؛ مبيناً أن “سرد المعطيات الموضوعية حول تصرّف الشعوب الأوروبية تجاه الأوروبيين من الديانة اليهودية يبين مدى المسؤولية الجماعية لأوروبا في بروز ونشر العقيدة الصهيونية، وهي قضية أساسية قلَّما تُثار في المناقشات والمجادلات حول الكيان الصهيوني وشرعيته المفقودة في الشرق العربي والإسلامي لتبيان أنَّ الشعوب العربية ليست طرفاً في آليات اضطهاد اليهود في أوروبا”. ما يجعل من هذا الكتاب “مادة فكرية لتقوية المقاومة السياسية والمعنوية والأخلاقية ضد الشرعية الممنوحة أوروبياً للكيان الصهيوني، التي يجب أن تترافق مع المقاومة الميْدانية لإعطائها مزيداً من الدعم والتأييد والزخم”.
ابن العائلة الارستقراطية
د.جورج قرم (1940 ... ) -بحسب الموسوعات العملية- خبير اقتصادي ومالي لبناني، اختصاصي في شؤون الشرق الأوسط ودول حوض البحر المتوسط – مستشار لدى مؤسسات دولية وشركات ومؤسسات مالية ومصرفية خاصة وعامة. وعضو المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
تخرج من جامعة باريس في القانون الدستوري والعلوم الاقتصادية، وخريج معهد العلوم السياسية في باريس ـ فرع المالية العامة.
تحول د.قرم وهو ابن العائلة الأرستقراطية إلى مثقف علماني ونقدي. هذا التحول لم يحدث بين ليلة وضحاها، إذ تكشف سيرة الرجل عن محطات ومنعطفات تدخّلت في صوغ مصيره وأفكاره ومعتقداته الفكرية. لقد ولد صاحب «النزاعات والهويات في الشرق الأوسط» في الإسكندرية، وتعلّم في مدارس الآباء اليسوعيين. كان في الثانية عشرة حين اندلعت ثورة يوليو. ولايزال يتذكّر تأثير خطاب عبدالناصر في تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي عليه. كانت صدمة كبيرة له أن يرى طائرات فرنسا، بلد الحرية والأنوار بحسب ما تعلّمه في المدرسة، تقصف أحياء القاهرة. تخلخلت صورة فرنسا في ذهنه. كل ما تعلمه عنها انهار في لحظة واحدة. التجربة الناصرية دفعت الطالب ذا الثقافة الفرنسية المعمّقة إلى الانكباب على التراث العربي. أُعجب بأحمد أمين وطه حسين وعلي عبدالرازق وأحمد فارس الشدياق... التلميذ المهيّأ لمصير فرنكفوني صار ابناً للنهضة العربية في مصادرها الأكثر تنويراً.
مؤلفات قلقة
أهم مؤلفات د.قرم: السياسة الاقتصادية والتصميم في لبنان (باللغة الفرنسية)، تعدد الأديان وأنظمة الحكم، دار النهار – بيروت – 1977 وهي أطروحة الدكتوراه التي صدرت العام 1971 في باريس باللغة الفرنسية والعام 1973 في سرايفوا باللغة السربوكرواتية، تحت إشراف المركز الوطني للأبحاث العلمية اليوغسلافية، الاقتصاد العربي أمام التحدّي، دار الطليعة – بيروت 1977، التبعية الاقتصادية، مأزق الاستدانة في العالم الثالث في المنظور التاريخي، دار الطليعة – بيروت – 1980. صـــــدر أيضـــــاً باللغــــة الفرنسيــة واللغة الإنجليزية. التنمية المفقودة، دراسات في الأزمة الحضارية واالتنموية العربية، دار الطليعة – بيروت - 1981. انفجــــــــــــــار المشـــــــــــــــرق العربي، من تأميم قناة السويس إلى اجتياح لبنان، دار الطليعة – بيروت - 1987. صـــــــدر أيضـــــــاً باللغــة الفرنسية والإنجليزية بطبعات متتالية. أوروبا والمشرق العربي، من البلقنة إلى اللبننة: تاريخ حداثة غير منجزة، دار الطليعة – بيروت – 1990. صـــــدر أيضاً باللغة الفرنسية والألمانية. مستقبل لبنان في المحيط الإقليمي والدولي، كتاب جماعي بمساهمة وتحت إشراف المؤلف والأستاذ بول بالطة، باللغة الفرنسية، 1990، بيروت.
كما صدرت له العديد من الدراسات والمقالات في دوريات متخصّصة عربية ودولية حول الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العربية باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية.