كتب - عبدالشافي البنا:
الحضارة الإسلامية في مجال التشكيل الفني تعد من أروع الحضارات الإنسانية، وأخصبها وقد تميزت بتعدد جوانبها وقوة شخصيتها وأمانة الفنان المتخصص في معالجة فنونها المختلفة بروح الإيمان والأمانة والجدية والإخلاص والتحرر من الذات ومن المظاهر الشكلية.
ولا يخفى ما لهذا الفنان من دور إيجابي عظيم في إثراء الحياة من حوله والارتقاء بالذوق العام والارتفاع بمستوى الأداء وتقدير مسؤولياته وتبعاته الوظيفية، رغم ذلك تعرض هذا الفنان لهجوم شديد من بعض النقاد الغربيين وبعض المستشرقين الذين اختلقوا عليه بالباطل والادعاء الكاذب بأنه فن متخلف وهابط لا يرقى إلى المراقي العليا التي بلغتها بعض الحضارات القديمة العالية الشأن، خصوصاً فنون عصر النهضة. وهي آراء مغرضة لا تستند في مدلولها على واقع موضوعي، لكنها إن دلت على شيء إنما تدل على مزيد من التحامل والتنكر أو الجهل الثقيل بفلسفة الفن الإسلامي وباتجاهات الفنان المسلم.
بعيد عن الاستعارات الفجة
إن الفنان المسلم من دأبه أن يقدم دائماً صوراً جديدة يخضعها بذوقه وعقله وتجربته للأصول الجمالية والقيم النافعة في معالجة محررة ومحورة بعيداً عن الاستعارات الفجة والتقليد الرخيص، لأنه لا يرى في الفن أنه أداة للنقل والتقليد ولكنه يراه بمنظار آخر، وهو في ابتكاره يصور صوراً مستحدثة تخضع لكل القيم الروحية التي تدين بها وهي التي تقوم على أسس الاتزان والتقابل والتماثل والإشباع ومعاجة الفراغ في إحكام دقيق وحس مرهف وشعور بقدسية ما يعمل وما ينشأ مع الابتعاد عن المغالاة والمبالغة، لكن إذا بدا منه بعض الإسراف فما ذلك إلا لحتميته وضرورته، وهو بدوره يحرص على تحقيق المزاوجة بين الجمالية والنفعية في وحدة مشتركة كما يعني أيما عناية بإتقان عمله ما وسعه الجهد وما واتته القدرة وحسن التهيؤ لأنه يعد العمل الفني من قبيل العبادة، وكأنه صلاة لله وحب وتقديس له. إن الفنان المسلم لم يترك مجالاً من مجالات الإنشاء والابتكار والتفوق إلا طرقها مثبتاً فيها جدارته وثقته بنفسه وبشخصيته على العطاء المثمر سواء كان ذلك في فن العمارة بأنواعه وفروعه أم النحت والتصوير أم الزخرفة والفسيفساء وإبداع التحف الخزفية والمنسوجات والطنافس والتحف المعدنية والزجاجية والخشبية والعاجية وزخرفة الجدران والاهتمامات بفنون الكتاب والخط والتجليد والتذهيب وغير ذلك من النفائس والكنوز الإسلامية التي تزخر بها المتاحف المحلية والعالمية.
أحاسيس عميقة مرهفة
يتميز الفنان التشكيلي المسلم بأحاسيسه المرهفة ونظرته الجمالية العميقة للأشياء، ويمكن أن نعزو هذا إلى الذوق الأدبي والشعري الذي كان سمة بارزة لدى العرب والذي لابد أن تكون له انعكاساته على سلامة ذوق الفنان التشكيلي وتعميق رؤيته الفنية للطبيعة وإعلائها بالخيال البعيد الذي اكتسبه من بيئته العربية، والتزام الفنان المسلم بتبعاته قبل رسالته وقبل مجتمعه وشعوره بالمسؤولية في إيجاد التوازن النفسي والمواءمة وخلق العلاقة بين عقيدته الروحية وإحساسه كفنان، ولا يتصدى إلى أى ضرب من ضروب الإبداع إلا بعد الغوص فى جوهر موضعاته باحثاً ومنقباً عن أشكال جديدة يبتعثها ويتفاعل معها بنظرة الخيال العميق والاستجابة التامة، ويتميز أسلوبه بالاستطراد ودقة التحري في التركيب، وكثيراً ما تنتهي أطراف الطيور والحيوانات بأسلوب التفريعات وتشعشع الأوراق النباتية والابتعاد عن النظرة التقليدية أو الواقعية الصرفة، وهذا سر أدائه التجريدي أو الهندسي بمهارة وصبر وأناة وإحساس بالباطن وترك الظواهر الخارجية. وحين يواجه الفنان المسلم الطبيعة فلا يجول بذهنه أنه ينقلها كما هي وإنما التفكير في صياغتها على النحو الذي يريده بعيداً عن الآلية، ولعل في الزخارف النباتية المتداخلة ما يوضح ابتعاد الفنان المسلم عن النقل المباشر للطبيعة والانتقال بمستواه الفكري إلى مستوى فكري آخر برؤية متجددة ينزع فيها إلى تغطية سطوح الأشياء بقدر كبير من الزخارف، مما دعا بعض المغرضين والمشككين أن ينعتوه بالسطحية والهروب من الفراغات، والحقيقة أنه يهدف إلى استراق النظر وجذب الانتباه لزخارفه التي تنتشر بكثرة على سطوح نماذجه لإذابة مادة الحسم والإقلال من صلابته، وهذه إحدى مميزاته وخصائصه وهي من محاسنه وليست من سوءاته.
تقديس العمل الجماعي
الفنان المسلم يقدس العمل الجماعي في مجال التنفيذ ويجنح دائماً إلى الإحساس بالشمول والكلية والوحدة والمشاركة، وقد برع في استخدام الخطوط التي يطوعها لرسومه بغاية المرونة وإبداعه في ملامس السطوح والمساحات الهندسية البالغة الكثرة، وتسجيل التماثل والتبادل والتناظر والترديد الجمالي الحكيم الذي لا يخضع لجوهر التكرار المطلق أو المشابهة الآلية ومعرفته بعلم الهندسة نظرياً وعملياً. وتبدو هذه الكفاية من استخدامه البليغ للدوائر المتجاورة والمتماسة والخطوط المنكسرة والمتشابكة، بالإضافة إلى استخدام المربع والمثلث والمعين والمخمس والمسدس في صياغات محكمة. وقد تفوق في معالجة العناصرالحيوانية في أعمال الحفر على الخشب والجص والنسيج والمعادن والخزف، وتبدو منها حيوية الحركة ومرونتها. وقد وصل الفنان المسلم بالعناصر الخطية العربية إلى أوج الدقة والشهرة واتخذ منها عناصر زخرفية ولعب بالخط الخارجي وتصرف في أطواله واتجاهاته وفي سمكه، واستغله على كثير من التحف وفي العمائر مع التوفيق بين الأشكال وفراغاتها، واهتم أيضاً بالنوافذ الزجاجية الملونة المؤلفة بالجص ذات النباتات والأزهار والطيور والحيوانات.
شخصية مستقلة
إن انتشار الفنون الإسلامية من المحيط الأطلنطي غرباً إلى الخليج العربي شرقاً وهضاب الأناضول وأرمينيا شمالاً وأواسط أفريقيا والمحيط الهندي جنوباً، لهو خير دليل على عبقرية الفنان المسلم وجدارته على الاحتفاظ بشخصيته القوية التي خلقت إيقاعاً موحداً ومشتركاً، تردد في جنبات هذه الرقعة الواسعة، وهذه الأقاليم المتعددة رغم خصائصها البيئية قد تتباين أحياناً في بعض صورها وطبيعتها.