الجفير – عبدالرحمن صالح الدوسري:
هو من أبناء الحورة، تلك المنطقة المتميزة المليئة بالمتناقضات. أهلها يعشقون بعضهم، لأنهم يؤمنون “بالفزعة”، تكونوا في مجتمع بحري عائلي ليس منغلقاً على نفسه، ثم انغمسوا في السياسة ورسموا لأنفسهم دروباً انغمسوا فيها حتى النخاع. فهم يدافعون عن مبادئهم، لكنهم طيبون لأبعد الحدود متحابون لما بعد الحدود.
بدر عبدالملك أحد أبناء الحورة يفتح لنا دفاتره نتصفحها معاً ورقة ورقة، تضم كثيراً من الأمور قد يستغربها قارئ لم يفتح واحداً من هذه الكتب. فيها كثير من الجرأة نسميها “الصراحة”، وهي “ثقافة” أهل الحورة، التي لم يقرأها الكثيرون. أهلها متحابون، متفائلون رغم ضآلة أجسادهم، إلا أنهم يمتلكون قوة التعبير، وعنف القرار، وعدم الخضوع لأي شيء حتى لو كان قد تسبب لهم بكثير من الخسائر والمشكلات. لكنهم يعتبرونها قوة في الشخصية وامتلاكاً لثقافة التربية في “الكرامة”.
يبدأ عبدالملك حديثه بالقول: أنا من مواليد الحورة 1948، أعتبر نفسي من جيل النكبة أو بتعبير أدق “جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية”. بعد ولادتي بثلاث سنوات مرت على البحرين موجة الجدري التي لا تغادرنا حتى تحصد الكثيرين من أهل البحرين، ثم تعاود من جديد لتحمل معها الرجال والأطفال والنساء، وهذه المرة كانت والدتي إحدى الضحايا. لقد فقدت والدتي وكان عمري يومها ثلاث سنوات، وكانت أمي أوصت لجدتي وخالتي أن يتولون مسؤولية تربيتنا أنا وإخواني، كانت وهي تغادرنا توصيهم “الله الله في عيالي”. وكانت آخر الكلمات التي نطقت بها وسمعوها، وبعدها غادرت هذه الحياة وتركتنا في رعايتهم.
كان لخالتي وجدتي الدور الكبير والمؤثر في احتضاننا أنا وإخواني وتربيتنا، فأهل أمي مكانهم الأساسي هو الحورة، بينما والد أمي كان من الحسينيات ومركزهم الأساسي هو “حالة بني أنس”، أما أهل أمي فهم من بن حديد وهم من منطقة في الفاضل في براحة تسمى براحة “كانو”، وكانت هناك عين تسمى “عين بن حديد”، ومن المراجع التاريخية التي تؤكد هذا الكلام كتاب ألفه عبدالكريم العريض يذكر فيه إنهم “كانوا يلعبون في هذه البراحة التي تسمى براحة “بن حديد”. ومع مرور الوقت تغيرت ملامح هذه المنطقة واختفى الاسم، لكن “العين” ظلت، حتى وأنت قادم من طريق بيت عبدالخاجة ستجد هذه البراحة لازالت موجودة.
الحورة شكلت وعينا
ويضيف عبدالملك: كانت الحورة بالنسبة لنا المكان الذي يتشكل فيه الإنسان، فهي حي شعبي، وحي بحري، غالبية أهلها عملوا بالبحر “بحارة”، أما الذين جاءوا من بر فارس فعملوا في مهن أخرى خدماتية، تفاوتت بين الخباز والخياط والبناء، حتى إنك تجد التقسيم الاجتماعي للحي متميز بطبيعة المهن”.
ومع بروز النفط في الثلاثينيات توجه الجميع عرباً وعجماً إلى بابكو. وفي الثلاثينيات أيضاً تشكلت الأزمة العالمية التي انعكست على كل دول العالم. وجاء النفط متزامناً مع بداية انحسار اللؤلؤ الطبيعي في البحرين، والذي كان المصدر الأساسي لكسب كثير من أهل البحرين.
لقد جاء النفط لينقذ من كانوا يعتمدون على اللؤلؤ، ويفتح لهم مصدر رزق آخر يعوضهم عن كساد تجارة اللؤلؤ. ففي الثلاثينيات وتحديداً 1932 بدأ استخراج النفط، وكان هو طوق النجاة لهم حتى بعد أن بدأت الحرب العالمية الثانية كانوا يشعرون بأنهم في بحبوحة من حياتهم، ولولا اكتشاف النفط لقضى الجوع والفقر على كثير من العوائل البحرينية فمجيئه كان في صالحهم.
أحداث سياسية بارزة
ويشير عبدالملك إلى أنه ومنذ الثلاثينيات وحتى الخمسينيات زخرت المنطقة بكثير من الأحداث السياسية، فكانت هذه الفترة هي التي عاشها الجيل الأكبر من جيلنا، من الذين كانوا يتعاطون الحديث السياسي بالمنطقة، فإذا حدثت أي من القضايا التي لها علاقة بالغوص في المنطقة يتعاطف معها الجميع. فتلك الأجيال كانت مترابطة من حالة بني أنس إلى سلطة النعيم وحتى أهالي جزيرة المحرق.
وفي هذه الفترة من “هبة الغواصين” إلى 1948م إلى فترة “الهيئة”، لم تكن هذه المنطقة بالبعيدة عن المؤثرات السياسية، لذلك فإن من بدأ يتعاطى العمل السياسي في الحورة كان ناصر العسومي، وآخر يدعى نوح كانوا من جماعة “الهيئة”، وكان عددهم 120، فالهيئة بدأت في 1958، وكان لها 8 من القياديين. وكان من الحورة شخصان، حيث اشترك كل أهالي البحرين في تشكيل الـ120، من كل منطقة كان هناك من يمثلهم في هذا التشكيل”. أما نوح فغادر إلى قطر، بينما التحق ناصر بالعمل بشركة بابكو كعامل.
بعد ذلك تقاعد ناصر، لكن في فترة هذا الوقت في الخمسينيات، شاركوا من الجيل الشاب من الحورة في أحداث 54، 55 وانخرطوا في الحماس التنظيمي القومي، حتى قبل أن تنبثق التشكيلات القومية. وكان هذا الجيل يمثله يوسف ثاني ونجم الذوادي وعبدالله الذوادي، وعيسى ثاني وراشد القطان، فكل جيل الخمسينيات في الحورة ومن عملوا في بابكو في تلك الفترة كانوا جميعاً متعاطفين مع “الهيئة”، وهذا يأتي كجزء من تعاطف الشعب البحريني معها، فما بالك بحي فقير معدوم وساخط على كل ما يدور من حوله، لابد له أن ينصهر مع هذه الحركة بل ويكون سباق في ذلك. فكانوا أهم جزء من الشرارة، وليسوا متعاطفين معها فحسب، ذلك لأنهم كانوا يعيشون في منطقة فقيرة ومعدومة وخالية من كل شيء إلا الفقر”.
الحركات السياسية تدخل المنطقة
أما عن علاقة المنطقة بالحركات السياسية فيقول عبدالملك: دخلت المنطقة كثير من التنظيمات السياسية. وكانت البداية مع الشيوعيين ثم القوميين “حركة القوميين العرب”. وفي العام 52 و53 استطاع الشيوعيون أن يتسللوا إلى دواعيس الحورة، ويثبتوا قبضتهم عليها، أعني بذلك منهم حسن نظام وعلي مدان وحسين قائد، وهناك أكثر من 5 أشخاص استطاعوا تشكيل قيادة جبهة التحرير، كانوا يتمركزون ما بين الحورة والعوضية. هؤلاء كانوا قبل تواجد العنصر العربي مثل أحمد الذوادي والمجموعات الأخرى.
في 15 فبراير 1955 بدأ تشكيل جبهة التحرير الوطنية، فكان هو أول تنظيم سياسي منظم ولد في البحرين، فكان دوره هام لتشكيل هذه الجبهة التي شكلت من خلال المثلث الفقير “الحورة والذواودة والعوضية”، بعدها 3 سنوات ظهرت حركة القوميين العرب في الظهور. كان ذلك العام 1985 وقد أشار إلى ذلك عبدالله الذوادي في مؤلفه “رحلة العمر”، وكان دينمو المجموعة هو حسن العمر، ودوره جاء من ارتباطه بالهيئة، وعلاقته بالمالية في بابكو، ولأنه كان الأكثر وعياً من الآخرين، وكان يشكل الصف الأول لحركة القوميين العرب في الحورة، وهو بذلك شكل دور الدينمو السياسي والاجتماعي معاً.
وفي العام 1967 حدثت أزمة حزيران، وبدأت كل الحركات بالاتجاه يساراً وتبني الحركات الماركسية، وظلت هذه التجاذبات بين القوميين والماركسيين، والتي ولدت الجبهة الشعبية على مراحل، وممن ضمتهم هذه الحركات التي تشكلت في الخارج؛ عبدالرحمن النعيمي، وذلك ضمن التنظيمات الطلابية في الخارج”.
وكان لهزيمة حزيران تأثيرها الواضح على التشكيلات السياسية والبحث عن سبب لهذه الهزيمة. والهزيمة في القيادات والفكر هي ما ولدت الفكر والانتماء الماركسي، وهو البديل الآخر الذي جاء في فترة ما بعد هزيمة حزيران.
دخلت السجن في سن 17
دخل عبدالملك السجن وعمره 17 عاماً، وبشأن ذلك يقول: كان عمري 17 عاماً عندما تم اعتقالي في السجن، وكانت موجة الفكر الماركسي هي الطاغية على بقية التنظيمات لتوسعها وتشعبها واهتماماتها دون سواها، ولارتباطها بالفكر الأدبي والموسيقى والقراءة لكتاب وأدباء عالميين مؤثرين.
كنت في السجن ومعي مجموعة مؤثرة مثل علي دويغر، وكان هو الشخص الدينمو في السجن، وبين 1965 و1966 في المعتقل، كانت هذه الشخصيات المؤثرة الفكر والأدب تجذبك لها، وتشعر أنك تنساق إليها أكثر.
وبين العامين 1968 و1969 قبل الفترة التي نفيت فيها إلى أبوظبي، التقيت عوض اليماني، وكان يمتلك قدرات فكرية كبيرة، كان قارئاً ومثقفاً، وكنت ألتقيه ونتزاور، فلعب دوراً هاماً في تشكيل فكري السياسي. وكان له دور في الدفع بي للمزيد من الحوارات، ورغم فارق السن بيني وبينه إلا أنني كنت أحتفظ معه بصداقة واحترام متبادل، وشعرت أنني مقرب منه وكان عوض يفضل صداقتي لأنه وجد بي الشخص القريب منه فكرياً.
كانت فترة التجاذبات في التنظيمات السياسية منتشرة ومتصارعة، لكني كنت أفكر في أن إتمام دراستي أهم من الانخراط في أي من هذه التنظيمات. ومن العام 1966 إلى 1968 حاولت أن أكون بعيداً عن الالتزام السياسي. وفي العام 1968 ولأنني اشتركت في بعض المشاركات الطلابية، شعرت أن ذلك أثر في تحصيلي الدراسي، لأنني في تلك الفترة كنت قد قررت السفر للدراسة في الاتحاد السوفيتي، لكن مشاركاتي ربما تكون السبب من منعي السفر إلى الاتحاد السوفيتي، وخسرت بذلك متابعة دراستي في الخارج، ودفعت بذلك الثمن”.
تشكلنا في الحورة
ويعود عبدالملك ليؤكد: كانت الحورة المكان الذي يشكل الإنسان، وعلاقتي به كانت منذ الطفولة إلى 1968، كانت علاقة مستمرة، فقط انفصلت عن المكان بالسجن بين 1965 و1966. وجاءت فترة النفي في 1968، بعدها أصبحت تذهب ومن ثم تعود لهذا المكان”.
وبين العام 1970 و1972 بدأت العوالم في هذا المكان تتغير، لكن ظل ارتباطك به حياً، لتأتي بعد ذلك فترة الشباب. وفي 1976 كانت لي انقطاعات نسبية عن المكان، إلى أن انقطعت نهائياً في 1983، وفي كل مرحلة يتبادر لك نوع من الصداقات ونوع من العلاقات ونوع من الحلم، وحتى في هذه الفترة بدأت علاقتي تتقطع بالرياضة. فأنا للأسف لم أكن لأستمتع بالجانب الذي عشقته وهو لعب كرة القدم، رغم أني كنت في قمة العطاء الرياضي والنجومية مع النادي، كنت في الفترة من 1962 إلى 1963، ألعب كرة القدم، حتى 1965، وفي العام 1968 كنت ألعب في المنتخب مع زميلي محمد كويتي، وكنا أصغر اللاعبين في المنتخب، وبعدها عاودت اللعب في الصف الأول للفريق والمنتخب، لكن الانخراط في العمل السياسي يجعلك تعشق أشياء أخرى إلى جانب الكرة والرياضة، فتبدأ تنمي عندك العمل السياسي والاهتمام أكثر بالقراءة. لكن يتبقى الاهتمام بالحورة وتبقى دائماً مرسومة ومتواجدة في تفكيرك.
أيام الشقاوة
ويضيف عبدالملك: أنت لا تستطيع أن تلغي من ذاكرتك فترة المراهقة من 12 إلى 16، هذه الفترة من العمر أجمل سنوات الشقاوة، ويتذكرها الإنسان بتفاصيلها غير منقوص أي من أوراقها. تتذكرها ورقة ورقة وبالشكل المرتب والمنظم، فأنت تتذكر الرحلات والتجمعات في الفريج وخارجه، وكنا أكثر ارتباطاً في الفريج، ورحلاتنا كانت منظمة حول البحرين ولفترات طويلة.
وإذا تحدثنا عن جانب من فترات الشقاوة، سيأخذنا الحديث عن مرحلة تواجد “الدقاقة” في الحورة. في تلك الفترة كنا في سن صغير عندما بدأت مرحلتهم في الخمسينيات، بعد ذلك تحولوا الدقاقة إلى الفكر القومي، وقضية الخوف من التسلل وتحديداً التسلل عن طريق البحر، وعلاقتنا بالإيرانيين والخوف من تواجد هذه المجموعات التي تدخل البلاد بطرق غير شرعية، ودورنا في إيقاف هذا المد القادم من البحر.
هذا المشهد كان بالنسبة لنا في الحورة يغذينا سلبياً أو إيجابياً، فأنت تتفاعل وتتغذى من هذا المشهد، لكن عندما كانت أعمارنا شارفت على 16 عاماً أصبحت الكرة هي هاجسنا الذي لا نستطيع التخلص منه، فأنا ألعب الكرة في المدرسة، وأتمرن مع النادي وأدرب الأشبال. ووجدت نفسي منغمساً في شيء اسمه كرة القدم طوال الأسبوع.
الشغف بالسينما
ويواصل: في هذه الفترة كان هناك ثالوث جديد في حياتي هو السينما والكرة والتلفزيون. إن دخول التلفزيون في حياتنا كان شيئاً جديداً، وأصبحنا أكثر إدماناً له لأنه بالمجان يمكنك مشاهدة كثير من الأفلام والبرامج دون عناء، وكانت مكسباً فكرياً وثقافياً جديداً. بذلك دخلنا إلى عالم آخر. ثم جاء الكتاب أيضاً ليكون صديقا آخر إلى فترة العشرين، عندما بدأنا نكون أكثر وعياً وأكثر ارتباطاً بهذه الأوراق في الكتاب والبصريات في التلفزيون.
حتى إنني دخلت المطاعم في سن متأخرة، تصور أنني لأول مرة أدخل مطعم أمين كنت في سيارة لوري “أبوخالد”، كنا في زيارة لأحد الأصدقاء المرضى في مستشفى بابكو، وبعد أن قمنا بزيارته عرجنا على مطعم أمين الذي كان بالنسبة لي اكتشافاً جديداً، كان يرافقني في اللوري في المقصورة في الخلف، وكان هذا الجانب مكشوف مع الصديق جاسم ناصر، ويجلس في المقدمة مع السائق بوخالد عبدالوهاب العامر، الطريف إنهم في العودة إلى الفريج قرروا المرور على “تكة أمين” وهي عادة بالنسبة لهما. أما أنا وجاسم فإنها شيء غير عادي وضرب من الأحلام، وعندما نزلوا واستقروا في المطعم تذكروا أننا أنا وجاسم ناصر في خلفية اللوري. كنا في تلك الفترة نلعب في الفريق، ولاأزال أتذكر تلك الحادثة لليوم عندما جاءنا عبدالوهاب وطلب منا النزول، وكانت أعمارنا لا تتجاوز الخامسة عشرة، ولا يوجد عندنا مبلغ نأكل فيه “أصياخ” الكباب، فكنا في ضيافة عبدالوهاب العامر. ودخلنا المطعم أنا وجاسم ناصر، وكنت في دهشة من أمري فهي المرة الأولى التي أتربع على طاولة وأتناول هذا العشاء “الفاخر”، وكانت تكلفة عشاء الشخص الواحد خمس روبيات فقط.
حدثت هذه القصة العام 1962، لأنني العام 1964 كنت في قسم المعلمين وباستطاعتي دخول المطعم وبجيبي مبلغ يؤهلني لذلك. في تلك الفترة كان فريقنا يلعب في الدرجة الثالثة، وكنا أساسيين في الفريق، ومطعم أمين كان في تلك الفترة في موقع بنك البحرين والكويت.
كانت المرة الأولى التي أزور فيها مستشفى العوالي، وأتعشى في مطعم أمين في ليلة من ليالي الشتاء الباردة. وقد أثرت هذه القصة في سلوكي كثيراً، فسلوك عبدالوهاب العامر علمني أن أكون حنوناً مع الآخرين، ولا أتجاهلهم. وهذه القصة هي جزء من مقومات أهالي الحورة التي تشكل علاقة الاحترام المتبادل ما بين الصغير والكبير. كان هناك دائماً ضلع ثالث هو المحبة والاحترام، ودائماً الشخص الأكبر عليه الاهتمام بالأصغر. وكان هذا ما يميز أهالي الحورة على أنهم عائلة واحدة لا تباعدهم الألقاب والانتماءات الأسرية، فالكل أخ للآخر، والأخت هي أخت للآخريات وكذلك الأم.
«البيبان» مشرعة دائماً
ويبين عبدالملك أنه كان للحورة ميزة أنك كنت تنام في بيتك دون أن تفكر في إغلاق الباب حتى في الليل، فالبيبان عند أهلها لا تعرف الأقفال. لربما يرجع ذلك لجانبين الأول أن أهلها هم من يعيشون في تلك البقعة من الأرض، وجميعهم يعرفون بعضهم جيداً، ولا يوجد بينهم غريب يخشى منه، وأما الصفة الثانية أن الفقر في الحورة لا يشجع الحرامية على التفكير في دخولها، أو حتى أن يدخل واحداً من بيوتها من باب الفضول ليس إلا، فالبيوت قد تصدم أي سارق يفكر بالدخول فهو لا يجد ما يسرقه في بيوتها لأنها عوائل فقيرة، والمهم أنه لو دخل بالغلط لن يخرج سالماً لأنه سيلقى حتفه داخل البيت، ليس من أهله لكن أهل الفريج سيحاصرونه من كل الجوانب قبل أن يفكر بالهرب.
أيضاً ما يميز الحورة أننا عندما كنا صغاراً نلعب الكرة في دواعيسها، كان أقرب بيت لك عليك أن تفتح بابه وتدخل تبحث عن ماء يروي عطشك، والنسوان قاعدين في الحوش، ولن تجد من ينزعج من تصرفك لأنك “ولدهم” هذه من ثقافات فريج الحورة، فكانت كل “اليحال” -وهي جمع يحله، وهي التي كانت تستخدم كثلاجات لتبريد الماء في فترة الصيف، وتصنع عادة من الفخار وتغطى بقطعة من القماش تكون منقوعة في الماء لتضيف نوعاً من البرودة على الماء الذي بداخلها- كانت في حوش أي بيت ثلاجتك التي تروي ظمأك، والتي تكشف غطاءها وتغمس فيها “قوطي” الأناناس الحلي، وتعيده مكانه وترجع جرياً إلى الخارج كالصاروخ، دون أي اعتراض من أهل البيت. مجتمع الحورة كان كالجسد الواحد، حتى وإن حصل فيه بعض التلاسن بين الحريم أو الصغار فالحياة دائماً ما تعود إلى طبيعتها. كان مجتمع الحورة لا يكمل الشهر أي من بيوته دون شعوره بنقص في “الميره” بصل كان أو بطاطس أو حتى سكر ورز، فليس من الحياء أن يطلبه من جاره ويلبي الجار طلبه بكل سرور.
هذا المجتمع عاش ببساطته قبل بزوغ مجتمع الرأسمالية، وبعدها من الطبيعي أن تشكل الحداثة والمدينة أنماطاً جديدة، وحتى بعد دخول الفردية في جسد هذا المجتمع، لأنهم تربوا على قيم المجتمع البحري. هذا المجتمع في كل الدراسات السيكولوجية يتحدث عن أن البحارة مجاورين للبحر وتختلف ثقافتهم عن سكان الصحاري، فالمكان فضاؤه مفتوح، وفي كل الدراسات يبقى البحار هو الإنسان الحالم والمغامر والكريم، فالحياة عنده ليست كالإنسان الزراعي القدري. هو يرخص ما يملكه ولا يعول على الغد، وهو من ينطبق عليه ما كانوا يرددونه علينا آباؤنا ونحن صغار “أصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب” أو “تغدينه.. والعشه على الله”.. هنا تتضح طيبة هذا الإنسان البحري واتكاله على ربه حتى في رزقه.
أتذكر حادثة وهي أنه عندما كنت في البرتغال في إحدى المؤتمرات سألت أحد الحاضرين “ما الذي جعل البرتغاليين يهتمون بالسفن وكولمبوس، قال لي صراحة: هناك شيء واحد، فعندما شعرنا بسيطرة إسبانيا على البرتغال، ما كان أمامنا إلا اليابسة والبحر وهو ما جعلنا نختار الإبحار ما وراء هذا المحيط. وهنا جاءت الفكر عند البحار بالترحال إلى ما وراء الأفق، فثقافة سكان البحر دائماً تبحث ما وراء الأفق، بعكس الذين يعيشون على اليابسة ويعتمدون عليها في قوتهم ورزقهم.
المقصب منتزه أهل الحورة
وعن المقصب يقول عبدالملك: شكل المقصب لأهل الحورة جسداً متداخلاً في ثقافتهم، وكان يعتبر المنتزه الذي يأمّه الصغار والكبار، رغم أن روائحه من “الذباح” والتي يأتي بها السيف بعد أن تسقي “المايه”، كانت تصل إلى بيوتهم. ورغم روائحه الكريهة لكونه “مسلخاً” لذبح الخرفان والأبقار، إلا أنه كان المكيف الذي يبحث عنه “الحوريون” ليتخلصوا من الحر في عز الصيف، ويستمتعون باستنشاق نسماته غير العليلة، لكنهم اعتادوها، فمنهم من يتواعد مع الأصدقاء في المقصب للعب الورق والدراسة والتسامر. وكان كثيرون من أهل الحورة يبحثون عن القيلولة في الظهاري فيه دون مبالين بأرضيته في البحر التي تتناثر فيها بقايا “الذباح” والأسماك التي قد تبحث عن الدم، وربما يكون بعضها خطر إلا أنها كانت فترة ممتعة للسباحة أيضاً. حتى إن بعض العائلات الفقيرة القريبة من المقصب كانت سفرتها من بقايا الذباح كالكروش والرئة المرمية في البحر، حيث تعيد غسلها وتجعل منها أكلة دسمة تزين بها سفرة العائلة وقت الغداء. إذاً يبقى المقصب واحداً من ثقافات الحورة المهمة للإنسان، ولا أتصور أن يكون أحد من أبناء الحورة لم يمر على هذا المقصب ولم يستريح فيه، إذ أصبح مصدر راحة ومتعة ورزق، إلى أن جاءت الدفنة الجديدة في بيوت الخاجة وأقفل المقصب وبدأت حياة جديدة لأهل الحورة، بعد أن دخلت حياة العائلة المتمدنة التي لم يعتادها أبناء الفقراء، ولم يشاهدها إلا في الأفلام العربية في السينما أو في التليفزيونات القليلة المنتشرة في بعض بيوتات الفريج، حيث يجدون فللاً فيها بلكونات وعوائل، بينها مجموعة من البنات “سفور” تتجمع في البلكون.. هذا المشهد كان غريباً وجزءاً من الحلم.
مرحلة التطور الفكري
ويتابع عبدالملك: في الثمانينيات بدأت الحياة بالتطور بالنسبة للمجتمع البحريني، وكثرت الحياة المتطورة مع العمران بإنشان مدينة عيسى وقوة الدفاع، والتحول من مشاهدة الفيلم الهندي والعربي إلى الأجنبي، وحتى قناة الظهران طورت أفلامها، وبدأ في تلك الفترة شراء الأدوات الإلكترونية كالراديو والتلفزيون بكثافة وانتشرت بشكل كبير، حتى الموضة بدأت تتطور إلى أن وصلت إلى “الميكروجيب”. وبدأت مرحلة جديدة تشاهد واحدً وواحدة يمشيان في الشارع متشابكي الأيدي، فالخطوبة كثرت بين الشباب ومراحل الزواج أيضاً كانت في أوجها، فبدأت الحياة تأخذ منحنى العمران السكني والفكري. وقد بدأت في هذه الفترة تنتشر عندنا رياضة المشي، وكنا ننتمي إلى الشلة المتحركة، وهي الشلة التي لا تهدأ، بعكس الشلة الراكة التي دائماً ما تبحث عن الدوران في الحورة وفي مساحات صغيرة. شلتنا كانت تعتمد على مسافات المشي حول البحرين وهي المسافات الطويلة، نمشي من الحورة من العصر ونمر على بيت الزامل وكنا نستمتع بأن نرى واحدة تضحك لنا من البلكون ببراءة، ونعرج على السوق ونتوقف عند “نخي بشير” ونشرب عصير “الليمون” ونعود إلى المستشفى الأمريكي، وتصور أن هذه الجولة في المشي كانت برنامجاً يومياً لأن الدراجات “السيكل” لا يمكن أن تتحمل ثلاثة، ولم نكن لنمتلك السيكل، لذلك فإننا نحبذ المشي في برنامجنا. ومن الطبيعي أن تبدأ من الحورة وتعرج على فرجان كثيرة مروراً بالفاضل إلى السوق، والعودة في الاتجاه نفسه دون ملل أو تعب.
كما ظهرت مرحلة الكاميرا في هذه الفترة، لكنها لم تكن في بدايتها، فقد عرفنا الصورة من خلال التخرج من الصف السادس، وكان يفترض أن يكون في شهادتك صورة شخصية للطالب، لذلك ازدهرت مرحلة الصورة والإستوديوهات، وأصبح كل أهل البحرين يتجهون للتصوير للشهادة. وأعتقد أن الإستيديو الأكثر حظاً “ستيديو خلفان”. والطريف في الموضوع أن الصورة هي نفسها مع اختلاف الوجه، فالجاكيت والتاي هما نفسهما، من يختلف هو الشخص فقط، فلو دققت في الصور ستجدها باللباس نفسه، وهي أيضاً ساعدت على انتشار تبادل الصور بين الأصدقاء للذكرى وللغزل والحب.
وقد بدأت ثقافة الصورة تغزونا كطلبة من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية، وهي تمثل فترة المراهقة أيضاً. وكانت عبارات الغزل التي تكتب خلف الصورة “إن غاب جسمي فهاك رسمي” وحتى بين الأصدقاء من الأولاد. وقد ازدهرت لأن كتابة الرسائل تستغرق وقتاً وثقافة، وكانت صعبة بعض الشيء، والمضحك أيضاً أنها صورة تظهر الشخص في قمة الجمال مع بعض الرتوش وهو ما كان يشجع على المراسلات بالصور.
لقد بدأنا في تلك الفترة نتقمص أدوار الأبطال من كثرة ترددنا على السينما وعشقنا الأفلام العربية، ففيلم “كالوسادة الخالية” كنا نتصور أنفسنا فيه عبدالحليم حافظ والبنات يتصورن أنفسهن لبنى عبدالعزيز وماجدة. وحتى تسريحات الشعر دخلت في حياتنا وبدأنا نتصرف كأبطال الأفلام ونمني النفس بأن من تشاهدنا من البنات ستقع في غرامنا دون تردد على طريقة أحمد رزمي وعبدالحليم حافظ. وبدأنا نتصور ونحلم ونحفظ الأغاني وحوارات الأفلام ونجمع مصروفنا اليومي للمدرسة ونوفره لآخر الأسبوع لمشاهدة نجومنا في السينما، لنعود إلى البيت بأحلام كبيرة لا نهاية لها. لقد بدأت الحورة بحزام “الروايح الكريهة” من المقصب وحوطة الحمير والكجرة، وتطورت لتصبح حزاماً ثقافياً يعني حزام مدارس أولاد وبنات ومعهد ديني، فتصور هذا التناقض في الحياة والتحول في الحورة من حزام “عفن” إلى حزام مدارس وثقافة. هذا التناقض في الحياة شيء غريب عايشناه في الحورة.
^ للحوار بقية