كتب - عبدالله الذوادي:
مرت على البحرين سنين عجاف وكوارث كثيرة ، لكنها كانت دوماً تخرج منتصرة بفضل أبنائها شعباً و حكومة وبفضل إيمانهم بوطنهم وحبهم لترابه، من ضمن الكوارث سنين الحرب الثانية العجاف التي تصدى لها شعب البحرين وحكومته بحكمة و صبر.
لم تكن البحرين مستثناة مما أصاب العالم بأسره من تداعيات الحرب العالمية الثانية من تدمير وجوع و خراب أكل الأخضر و اليابس، إضافة إلى ملايين الأرواح التي سقطت جراء تلك الحرب الملعونة والتي توجت بالسلاح النووي الذي استخدمته الولايات المتحدة الأمريكية ضد مدينتين يابانيتين وراح ألوف الضحايا من سكان مدينتي هورشيما و نجزاكي، ومازالت آثار تلك القنابل مستمرة على بعض من يعيشون من اليابانيين، منذ تلك الحرب العام 1945، ومع أن استعمال ذلك السلاح الرهيب قد أنهى الحرب، إلا أن أضراره مازالت تؤرق العالم ممن يملكون هذا السلاح المدمر وممن لا يملكونه.
البحرين عانت كثيراً من ويلات الحرب العالمية الثانية، فقد شحت وارداتها من كافة المواد الغذائية والكمالية، وتعطلت مشاريع حيوية مثل مشروع جسر الشيخ حمد الذي ربط المحرق بالمنامة والذي أسهم بعد افتتاحة في ازدهار الحياة الاجتماعية و الاقتصادية.
توقف الاستيراد عدا الرز والطحين
من تداعيات الحرب العالمية على البحرين أن توقفت معظم الواردات التي ترد إلى البحرين ماعدا القليل جداً من المواد الغذائية التي كانت تأتينا من الدول المجاورة مثل المملكة العربية السعودية والعراق وإيران وسوريا، فقد توقف استيراد الرز و السكر والطحين والشاي من دول شرق آسيا والهند بسبب استعار الحرب، واختفت واردات تلك الدول تماماً مما جعل أهل البحرين يبحثون عن بدائل غذائية فحل الجريش بدل الرز وندر تماماً استخدام الرز إلا ما يباع في السوق السوداء العسير شراؤه على غالبية شعب البحرين، كما توقف استيراد مواد البناء وغيرها من السلع. لكن شعب البحرين لم يستكين لهذا العسر المعيشي فشمر عن سواعده ليجد البدائل، كما إن الحكومة بدورها أيضاً أوجدت البدائل والحلول لتوفير الحياة المعيشية المعقولة للمواطنين، فاستحدثت إدارة باسم “إدارة التموين” وأصدرت بطاقات تموينية تتضمن أفراد كل الأسرة بحيث يحصلون على المواد الغذائية الرئيسة مثل الأرز والسكر والطحين والقمح، وكانت الحكومة في نهاية كل شهر تدعو المواطنين لاستلام البطاقات من مبنى البلدية.
أذكر أن أحد الموظفين كان ينادي على كل رب أسرة باسمه ويسلمه بطاقته، وذلك الشخص هو سلمان خلف ابن الحاج خلف الذي سلمت أسرته مؤخراً بيتهم التاريخي في المنامة الواقع بمحاذاة شارع الشيخ عبدالله بالمنامة بالقرب من سوق الذهب إلى إدارة الثقافة ليكون معلماً ثقافياً، وكان يقع على شارع الشيخ عبدالله في الجهة الجنوبية طاحونة رحى كبيرة لطحن الحبوب للمواطنين يجرها حمار مغطى العينين، فكان الأهالي يأخذون حبوبهم من القمح إلى تلك الطاحونة لطحنها مقابل نصف روبية كأجرة للطحن.
أزمة التمر
أما التمر المحلي فكان متوفراً من المليون النخلة التي كانت تغطي سواحل البحرين من السويفية “السوق المركزي” إلى الوسمية وشبه جزيرة سترة والنبيه صالح وعراد وسماهيج. وعندما قامت الحرب رفع التجار أسعار التمر فبدلاً من أن تباع “الكلة” بأسعار تتراوح بين ثلاث روبيات إلى عشر روبيات حسب أنواع التمور مثل الخصيب و الخنيزي و المرزبان و الخلاص والغرة، كان الخصيب أرخصها وأغلاها الخلاص، رفعوها إلى 15 و20 روبية، وقد أنذرهم المستشار بلجريف بتوجيه من صاحب العظمة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفه حاكم البحرين طيب الله ثراه بعدم رفع الأسعار، ولعدم انصياعهم للأمر قام بوضع أقفال كبيرة على مخازن التمر التي تقع في سوق المنامة جنوب شارع التجار، وذهب إلى البصرة والأحساء وجلب التمور، والتمر العراقي الزهدي وباعها على المواطنين بأسعار متدنية، فضج واحتج تجار التمور واشتكوا إلى الحاكم لكن عظمته أكد لهم موافقته على إجراء بلجريف لأنه يصب في مصلحة المواطن العادي، وبقيت مخازنهم مقفلة إلى أن وافقوا على العودة على الأسعار السابقة ومن رفض بقيت مخازنه مقفلة بأقفال بلجريف إلى أن أكل الدود التمر وشرب الدبس الذي كان يجمع في المدابس في تلك المخازن.
أما ما كان يصرف للمواطنين من مواد غذائية فكان نوعاً من الرز يسمى بودبيبة، حبته مدورة والسكر وغالبيته من السكر الأحمر الذي يستخرج من البنجر والطحين والحبوب، وقد نشط تجار السوق السوداء أيام البطاقة وأخذوا يغرون الفقراء من المواطنين بشراء بطاقاتهم التموينية بمبلغ 15 إلى 20 روبية مقابل استلامهم لحصة أولئك المواطنين وتخزينها في مخازنهم وبيعها في السوق السوداء بالأسعار التي يطلبونها. ويلجأ المواطنون إلى بيع بطاقاتهم في مواسم الأعياد لشراء ملابس لهم ولأطفالهم أو لأسباب أخرى. هكذا يتجلى الجشع لدى بعض التجار الذين أصبحوا بما يسمون بتجار الحروب وهم في كل بقعة من بقاع العالم، فقد أثرى عدد كبير من هذا النوع من التجار على حساب الفقراء من فقراء العالم ومنهم فقراء البحرين.
الحكومة وزعت الخبز
من المساعدات التي قدمتها الحكومة لفقراء المواطنين أثناء الحرب العالمية الثانية توزيع التمور والخبز والأكفان لموتى الفقراء وأحيائهم، كانت البلديات تتكفل بتوزيع التمور والخبر يومياً في مقرات البلديات أو المؤسسات التابعين لها، فمثلاً بلدية المنامة كانت توزع هذه المساعدات في حديقة الحيوانات “الباغشة” التي كانت تقع جنوب شارع الشيخ عبدالله وبالضبط مكان مدرسة المنامة الثانوية للبنات، فيفتح الباب الجنوبي للباغشة ويدخل المواطنون ويجلسون ثم يأتي موظفو البلدية فيوزعون التمر والخبز على المواطنين. فالإنسان البالغ امرأة أو رجلاً يحصلون على رغيف واحد وكمية من التمر والطفل يحصل على نصف رغيف وفندوس في حجم قبضة اليد تمراً، وإذا ما توفي أحد من المواطنين تصرف له البلدية كفناً لأنه ليس في مقدرة أهله شراء كفناً له.
لصوص الأكفان
لقد نشط لصوص الأكفان، فعندما يتوفى أحد الفقراء ويجري تغسيله وتكفينه من قماش رديء يسمى “الخام” يهم اللصوص ليلاً إلى نبش القبر وسرقة الكفن ودفن الميت عارياً، مما دفع المستشار بلجريف إلى التجوال يرافقه حارسه بلال ليلاً بالمقابر وما يحيط بها للحد من نشاط أولئك اللصوص الذين لا يجدون صعوبة في بيع سرقاتهم لتجار الحرب أو للبحاره الإيرانيين الذين يأتون إلى البحرين لبيع بعض المواد مثل البصل والغنم والملح.
أما بالنسبة للملابس والأقمشة فتوقف استيرادها من الغرب والشرق، وقد لعب النساجون في قرية بني جمرة دوراً بارزاً في سد بعض النقص من المنسوجات مثل الإوزار والغترة والإردة الذي تلبسه نسوة القرى مما خفف وطأة نقص الأقمشة على المواطنين.
وفي ما يتعلق بالأثاث، فقد نشط أهل البحرين في توفير الأثاث والأسرّة و المنازة للأطفال بصنعها من جريد النخيل وبعض الأخشاب وتميزت قرية كرانة بهذا النوع من الأثاث. ونشطت سترة بصناعة “المِديدْ” من أعشاب تسمى بالأسل والحبال الذي يصنع من ليف النخيل وتباع في سوق الأربعاء وسوق الخميس.
وبالنسبة للمأكولات لشهر رمضان مثل البلاليط والنشا والساقو، فقد نشطت بعض النسوة في هذا المجال، فقد كن يطحن القمح بالرحى، ثم يغربلنه و يعجنّه ويضفن إليه قليلاً من الكركم ليغير لونه إلى الأصفر، ثم يضعنه في مشخال ويضغطن على العجينة بأيديهن فينزل من المشخال على شكل خيوط نحيفة حسب سعة ثقوب المشخال، ثم تجفف تلك الخيوط في الشمس وتستخدم كبلاليط خاصة في شهر رمضان. أما النشاء “دقيق ناعم جداً” فيؤخذ الطحين ويضاف إليه الماء ثم يصفى بقماش من الويل أو الململ، ثم يؤخذ السائل فيوضع في الشمس إلى أن يتبخر الماء ويتحول الباقي إلى نشاء.
المرأة أوجدت البديل
هكذا كان دور المرأة البحرينية في توفير تلك النواقص التي قضت عليها الحرب، لكن المرأة البحرينية لم تجد صعوبة في إيجاد البديل بفضل خبرتها وقوة قدرتها وعزيمتها على مواجهة الصعاب. لقد وفرت تداعيات الحرب العالمية الثانية فرص عمل كثيرة للبحرينيين رجالاً ونساءً، فهناك مثلاً فرص عمل المرأة المتمثلة في أعمال الطحين وفي الحصر والسميم لتغطية البرستية ولسفر والمهاف وطحن الحب وتحويله إلى دقيق وجريش الذي كان الوجبة الرئيسة لمعظم المواطنين وكذلك الخبز “خبز الرقاق” ، وخياطة الملابس والكورار والنقدة والتطريز، أما الرجال فتشعبت أعمالهم في كثير من المجالات إلى جانب العمل في بابكو. وكانت بعض المؤسسات الحكومية تعطي موظفيها مؤونة شهرية مثل الشرطة توفر لهم الرز والسكر والدقيق والدهن مجاناً. وكذلك بابكو تعطي بعض موظفيها مثل هذه المؤونة. هكذا كانت الحرب العالمية وهكذا كانت البطاقة التي خففت من الأعباء المعيشية للمواطن البحريني، وهكذا برزت طائفة من التجار الجدد الذين صنعتهم السوق السوداء من خلال شرائهم للبطاقات التموينية من المعوزين من البحرينيين.
شعب عظيم
بلى هكذا اجتازت البحرين وشعبها محنة الحرب العالمية الثانية، وهكذا أصبح شعب البحرين متحدياً لكل الصعاب التي مرت على بلاده، وكما انتصر على كل الصعاب في الماضي، سينتصر بإذن الله على تداعيات الفتنة الطائفية الحالية وسيعود الوئام والمحبة إلى كل أبناء البحرين تحت راية ملكهم حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى. وستبقى ذكرى هذه الفتنة مثل ذكرى سنين البطاقة أو زمن البطاقة؛ مجرد ذكرى أليمه سيتجاوزها شعب البحرين العظيم كما تجاوز النكبات الكثيرة مثل سنوات الطبعة وحريق سوق المنامة وسنة الزكاة في الثلاثينات وحريق الذواودة بالمنامة العام 1951 وحريق القضيبية العام 1953، وآخر الكوارث حريق السوق الشعبي الأخير بمدينة عيسى هذا العام 2012.