كتب - أمين صالح:لم يكن المخرج الأسباني لويس بونويل يكتفي بالتلاعب بمظاهر الواقع الخارجية، المرئية، إنما أيضاً يسبر مظاهر اللاوعي ويدمجها بالحياة اليومية التي يصورها الفيلم. وهو في هذا الصدد يقول: “لا أحب أن أرتاد صالات السينما، لكنني أحب السينما كوسيلة للتعبير. لا أجد هناك أي وسيلة أفضل لعرض واقع لا نلمسه نحن بأصابعنا كل يوم. من خلال الكتاب، من خلال الصحف، من خلال تجاربنا، نحن نعرف واقعنا الخارجي، الموضوعي. لكن السينما قادرة، بواسطة آلياتها، أن تفتح نافذة صغيرة على تمديد ذلك الواقع. طموحي كمشاهد للسينما أن أرى الفيلم يعرّي أو يكشف النقاب عن شيء ما.. لكن هذا لا يحدث إلا نادراً”.ضد الواقعيةانطلاقاً من هذا، اتخذ بونويل موقفاً سلبياً من حركة الواقعية الجديدة، التي برزت في السينما الإيطالية في فترة الحرب العالمية الثانية، وانتشرت لتمارس تأثيراً كبيراً وفعالاً في أوساط السينما العالمية.يقول بونويل (العام 1954): “الواقعية الجديدة، في السينما الإيطالية، أدخلت عناصر قليلة لإثراء لغة التعبير السينمائي. إن واقعها ناقص، تقليدي، ومنطقي. بينما الشعر، والغموض، وكل ما من شأنه أن يتمّم ويوسّع الواقع، هو مفقود كلياً في هذه الأعمال. بالنسبة لأي واقعي، هذه الكأس مجرد كأس، ولا شيء آخر. هو يراها وهي تُملأ بالنبيذ ثم تؤخذ إلى المطبخ كي يغسلها الخادم أو ربما يكسرها، الأمر الذي سيؤدي إلى طرده أو عدم طرده، هكذا. لكن هذه الكأس نفسها، التي يراها عدة أشخاص مختلفين، يمكن أن تكون أشياء كثيرة ومختلفة، لأن كل شخص يسكب جرعة معينة من المشاعر الذاتية في ما ينظر إليه.. ذلك لأن أحداً لا يرى الأشياء كما هي، وإنما حسب ما تمليه رغباته وحالته الذهنية. أنا أناضل من أجل السينما التي ستجعلني أرى هذا النوع من الكأس، لأن هذه السينما سوف تمنحني رؤية شاملة عن الواقع، وتوسّع معرفتي بالأشياء والناس، وتكشف لي عالم المجهول المدهش وكل ما لا يمكن العثور عليه في صحيفة أو في شارع”.الموسيقى بعد إضافيبونويل من المخرجين الذين يعتمدون على الموسيقى الكلاسيكية (فاجنر، براهمز). وقد أبدى اهتماماً جاداً بالموسيقى وهو في الثالثة عشرة من عمره، حين بدأ في تعلّم العزف على الكمان والبيانو. كان مولعاً بشكل خاص بموسيقى ريتشارد فاجنر، حتى أنه كوّن فرقة موسيقية تولى قيادتها في الكنيسة.في أول فيلمين حققهما: كلب أندلسي (1929) العصر الذهبي (1930) اعتمد بشكل كبير على موسيقى فاجنر، خصوصاً “تريستان وإيزولد”، التي أعجب بها كثيراً منذ صغره. كما وظف موسيقى فاجنر في أكثر من فيلم، مثيراً بذلك الانفعالات العنيفة للحب. إن استخدام بونويل لموسيقى فاجنر، من أجل إثارة المظهر السامي للحب، يشير إلى تعويله على الصوت في إعطاء أفلامه بعداً إضافياً. الموسيقى في أفلامه تتبنى عدداً من الأدوار المختلفة، فهي من جهة تؤكد الناحية العاطفية وتدعم الانفعالات الحسية، ومن ناحية أخرى توظَف بطريقة ساخرة أو تهكمية.لكنه، في أواخر الخمسينيات، نصح المخرجين الشباب بالحذر في استخدام الموسيقى لأن “المرء ينتهي بخيانة الصورة”.كذلك عبّر عن نفوره من التوظيف السطحي للموسيقى في الأفلام، قائلاً: “أكره بشدة الموسيقى في الأفلام. إني أميل إلى كبحها، ووضع حدٍ لها، لأنها سهلة إلى أبعد حد. كم فيلماً سوف يصمد لو حذفنا الموسيقى؟”بونويل كان يؤكد مراراً أن الصمت يؤثر فيه كثيراً، وأن الموسيقى ليست ضرورية بل هي “عنصر متطفل” و “ضرب من الخداع”.في عدد من أفلامه (مثل: يوميات خادمة، جميلة النهار، تريستانا) هو لم يستخدم الموسيقى على الإطلاق.منذ البداية، كانت اعتراضات بونويل موجهة ضد تقديم الموسيقى بوصفها مصاحبة للصور السينمائية بطريقة تؤكد الصورة أو تلازمها. بتعبير آخر، هو كان يعارض استخدام الموسيقى لدعم الصورة أو مناصرتها. إن دعم الصورة السينمائية بهذا الشكل يعد تقويضاً لها.شعرية السينمافي حديثه عن شعرية السينما أو العلاقة بين السينما والشعر، قال بونويل (العام 1953): “الغموض، ذلك العنصر الجوهري في أي عمل فني، هو بشكل عام مفتقد في الأفلام. المؤلفون والمخرجون والمنتجون يبذلون جهداً عظيماً من أجل عدم تعكير صفو أمننا وطمأنينتنا، مصرين على أن تظل نافذة الشاشة المدهشة مغلقةً بإحكام في وجه عالم الشعر المحرّر. إنهم يفضلون جعل الشاشة تعكس موضوعات تشكّل استمراراً طبيعياً لحياتنا اليومية، وأن يكرروا، آلاف المرات، الدراما المبتذلة نفسها، وجعلنا ننسى الساعات المشحونة بالوجع والضجر في عملنا اليومي. لكن في كل الأفلام، الجيدة أو السيئة، وعلى الرغم من نوايا صانعي الفيلم، تكمن روح شعرية تناضل من أجل البروز إلى السطح والكشف عن نفسها”.وفي موضع آخر، يقول بونويل: “تم اختراع السينما، كما يبدو لي، من أجل التعبير عن حياة ما دون الوعي، التي جذورها تتغلغل على نحو عميق جداً في الشعر، لكنها لم تُستغل أبداً لتحقيق هذه الغاية”.الشيخوخةيتحدث بونويل عن الشيخوخة فيقول: “في السبعين من عمرك، أنت ترى الأشياء بعاطفة مختلفة، ومن وجهة نظر مختلفة. لقد تغيّر العالم في السنوات الثلاثين، ويتعيّن عليك أن تهاجم بأسلحة مختلفة”. (كتاب: عالم لويس بونويل، تحرير جوان ميلين) لكن مشاعره وقناعاته لم تتغير. “مثل أي شخص آخر، أنت تراكم تجاربك خلال طفولتك وشبابك، ثم تمضي إلى ركن هادئ وتحاول أن تتذكر. هناك يحين وقت حيث من الحماقة الاعتقاد بأن عليك أن تعيش من أجل أن تخلق. لا.. مجرد جحر وعنكبوت ينسج شبكته، وأنت تحاول أن تتذكر كيف كان العالم في الخارج”. (حوار مع كارلوس فوينتس، مجلة نيويورك تايمز، 11 مارس 1973)الموتبشأن تأملاته في الموت، نجد:«أنا لا أخاف من الموت، بل أخشى أن أموت وحيداً في غرفة بالفندق، بينما حقائبي مفتوحة، والسيناريو على المنضدة. أريد أن أعرف أصابع من التي ستغمض عينيّ”.«لا أحب السفر بالطائرة، ليس لأنني أخاف من الموت، إنما لأنني أشعر بالقلق حين أدرك بأنني هناك، في السماء، ولا أستطيع أن أفعل شيئاً”.«أخاف أن أموت أثناء عملية الانتقال من مكان إلى آخر. لا مانع لدي في أن أموت، لكن ليس أثناء الانتقال”.«عندما تصبح في الرابعة والسبعين، لن يهمك بماذا تموت، بل كيف تموت”.