^ من الدعوات الأكثر شيوعاً في الآونة الأخيرة في المنطقة العربية هي الدعوة للحوار. والحديث هنا عن القوى الجادة في الدخول في حوارات مع الأخرى المتنازعة معها، من أجل نزع فتيل ذلك النزاع والخروج بالبلاد من أزمة جراء تصادم أطرافه. وبخلاف ما يسود في أذهان وسلوك القوى ذات العلاقة بالحوار، لا يقتصر أمر أي حوار يراد له النجاح، وتحقيق الأهداف التي تقف وراءه، على ذلك الذي يدور بين تلك القوى فحسب، بل هو يتجاوزها كي يصل إلى كل واحدة منها على حدة، وفي صفوف كل كتلة سياسية تشكلت من أطراف ليست متطابقة سياسياً أيضاً. ولانتشال الساحة المعنية من أزمتها، ومن أجل وصول الحوار إلى غاياته التي أقيم من أجلها، لا بد أن تتوفر في طرقه مجموعة من متطلبات الأمن، ووسائل الأمان، وعناصر النجاح التي يمكن حصر أهمها في النقاط التالية: 1. اقتناع كل قوى على حدة، بحاجتها إلى الحوار، ومن ثم ضرورة قيامها، بحوار جدي صادق داخل صفوفها، كي تجري حواراتها الخارجية على أرضية ديمقراطية داخلية حقة، قادرة على مد تلك القوى بوضوح الرؤية المعبرة عن رأي، ومن ثم طموحات، الغالبية، ليست بالضرورة، العظمى، في تلك القوة. فمتى ما فقدت أي من القوى الضالعة في الحوار شرعيتها الداخلية، بإغفالها رأي تلك الأغلبية، يصعب عليها مطالبة الآخرين، إثناء حوارها معهم، التقيد بمقاييس أخلت هي بجوهرها. فكما يقول المثل الشائع “فاقد الشيء لا يعطيه”، فما بلك بمطالبة الآخرين التقيد به. 2. حرص كل من القوى المتحاورة على القبول بالآخر وتحاشي، دون أية مساومة على الأساسيات، عدم نفيه، بل وتشجيعه على الإفصاح عن أهدافه من المشاركة في الحوار المزمع، ومساعدته على الكشف عن المرامي التي يسعى إلى الوصول لها. مثل هذا الاعتراف المتبادل بين مختلف القوى، يوفر الأمان، بعد أن يزيح الأخطار، ويمهد الطريق الصحيح، الذي بوسعه إيصال الجميع إلى بر الأمان الذي، يفترض أنهم، يبحثون عنه، بكل صدق، بشكل مشترك. 3. استعداد كل الأطراف، دونما أي استثناء للمساومة من أجل الوصول إلى حلول وسطى، دونما تشبث بمطالب، تدرك القوى التي تطالب بها أنها غير ممكنة التحقيق، بسبب عدم ملاءمة الظروف، أو لعدم نضجها. ويعتبر مثل هذا التقدير الدقيق لما هو ممكن أحد أهم العناصر الحاسمة في إنجاح أي حوار سياسي، طالما اقتنعت القوى المتحاورة، أن السياسة في جوهرها “هي فن الممكن”. والوصول إلى “فن الممكن” يتطلب مهارات فائقة تنطلق من خبرة غنية في مجال العمل السياسي، فالأمر ليس بالسهولة التي قد يبدو عليها، أو الحديث عنها. 4. الفهم الصحيح للعوامل المؤثرة في ساحة الحوار، بما يشمل، العناصر الذاتية الداخلية التي تسير آليات أدائها السياسي، وتلك الموضوعية الخارجية التي تلقي بظلالها عليها، والانطلاق من كل ذلك من أجل التوصل إلى المعادلة المطلوبة التي تقيس بدقة حضور أي منها في الحوار، وتقدير التأثير المتبادل بينها، كل على حدة، وفيما بينها أيضاً. أي شكل من شكل الإخلال بالحيز الصحيح الذي يحتله أي عامل منها، تضخيماً، أو تقليصاً، من المحتمل أن يقود الحوار إلى طرق مهلكة، ونهايات ليست محمودة العواقب. 5. التحلي بالصبر السياسي، وليس الأخلاقي فقط، فرغم وجود الكثير من العناصر المشتركة بينهما، لكن يميز الصبر السياسي نفسه بحاجته إلى مزج خلاق يقود إلى فهم الآخر أولاً، واستعداده للتحلي بأقصى درجات الصبر التي تفسح للآخر أخذ الوقت الضروري الكافي الذي يحتاجه لشرح وجهة نظره ثانياً، والدفاع الصريح العلني عنها، دون مواربة أو خوف ثالثاً. وما هو أهم من ذلك كله، هو سعي الطرف الذي يريد أن يتحلى به لفهم دوافع الطرف الآخر، وإفساح المجال أمامه كي يكشف عن الأوراق التي يريد التحدث عن محتواها في الحوار المعني. 6. المزاوجة المبدعة بين ما هو ذاتي على مستوى كل طرف من الأطراف المتحاورة من جانب، وما هو موضوعي يشمل ما تحتاجه ساحة الحوار للخروج من أزمتها بأقل الخسائر الممكنة، وأفضل النتائج المتوخاة من جانب آخر. هذه المزاوجة الخلاقة، وبشروطها الإبداعية، تكاد أن تكون أحد العوامل الفاصلة في نجاح الحوار أو تلك التي يمكن أن تقود إلى إفشاله، نظراً لكونها أكثر قدرة من العناصر الأخرى على تقليص حضور الأنانيات الذاتية، أوتوسيع نطاق المتطلبات الموضوعية، وإشباع كليهما بشكل متوازن بما يحقق الوصول إلى المعادلة الصحيحة لإنجاح أي حوار. الإخفاق في ذلك يمكن أن يكون أكثر العناصر خطراً على أي حوار، وتدميراً لمساراته. 7. توفر لجنة مستقلة من الحكماء ومن أهل الخبرة، ليست لها مصالح ذاتية مشتركة مع أي من أطراف الحوار، لكنها بشكل جماعي، وأعضاؤها على المستوى الفردي، يحظون بثقة جميع الأطراف الضالعة في الحوار. ينبغي أن تتحلى مثل هذه اللجنة بالقدرة على السكون والصمت خلال الفترات التي يكون فيها الحوار سائراً بشكل سلس، ولا يحتاج إلى تدخل أطراف خارجية. بالقدر ذاته، لا بد لهذه اللجنة أن تكون جاهزة، عندما يصل الحوار إلى أي من المنعطفات الحادة التي يمكن أن توقف مسيرته، أو ترغمها على أنحراف عن الطريق الصحيحة المرسومة لها. بطبيعة الحال، لا بد من مراعاة، عند تشكيل اللجنة أن تكون معبرة عن مختلف أطياف العمل السياسي المؤثرة في الساحة، لكنها غير منتمية تنظيمياً لأي منها. 8. عدم إثقال الحوار بما هو غير قادر على تحقيقه. فالحوار في جوهره، لا يعدو، وليس في وسعه، أن يكون أكثر من مجرد محطة تلجأ لها القوى المتصارعة من أجل الحيلولة دون تفاقم الصراع القائم بينها، وتصاعده إلى مستوى يصعب حينها التحكم فيه أو الإمساك بلجام القوى الضالعة في ساحته. هذا يقتضي اقتناع تلك القوى بأن الهدف من الحوار هو التهدئة، وترطيب الأجواء، كي يتسنى لكل منها، كل على حدة، وربما بشكل جماعي، في حالات معينة، التفكير على نحو هادئ غير منفعل، وغير منصاع لأحداث الشارع اليومية، الوصول إلى الأهداف التي دفعتها للدخول إلى ساحة الحوار. 9. تقدير صحيح، دون إهمال أو تضخيم، للحيز الذي ينبغي تخصيصه للمطالب أو الشعارات التي ترفعها القوى الصغيرة التي غالباً ما تنزع نحو التطرف، وهو أمر مضر بالحوار، ويشكل أحد أهم عوامل الخطر المحدقة به. فوق كل تلك النقاط، هناك النية الصادقة البعيدة عن أي شكل من أشكال المخاتلة، أو حتى مجرد التذاكي غير المطلوب ولا المبرر، المطلوب توفرها في أذهان، ومن ثم سلوك كل الجهات المنخرطة أو تلك التي تنوي الانضمام إليه. فعند غياب سلامة النوايا وحسنها، ينبغي نجاح الحوار رهن بالصدفة وحدها. لكن، أمام المنعطفات، كتلك التي تشهدها المنطقة العربية اليوم، يبقى لا مناص من الحوار، فهو الكفيل بإعادة الأمور إلى نصابها، ووضع الجميع على الطريق الصحيحة التي نبحث جميعاً عنها، للخروج من المازق المتربص بنا، ونحن متجهون بسرعة، شبه جنونية، دون أن نعي ذلك، نحوه.