أسرتك.. أسوار تحميك وأسرار تحويك، وسكون يستوعب خوفك وأمان يهزم يأسك. أسرتك هي قوة تحارب ضعفك وأنس يجابه حزنك. وهي جذورٌ لما أنت عليه اليوم، وبذورٌ رمت نفسها في أرضك البكر لتنمو فيك، وتبقى حصاداً تجنيه لنهاية العمر، بكل معنى للخير وكل قيمة نقية وضَعتها فيك. في اليوم الدولي للأسرة نؤكد على التأثير الأصيل لتلك المنظومة الصغيرة التي تسمى الأسرة، والتي تُخرج الأفراد بما هم عليه من قيم ومُثل وقدرات ومواهب. في هذا اليوم ونحن نبحث عن نماذج عليا نتوقف عندها نتأملها. نتوقف ونستزيد من قبس إنساني ونموذج مضيء لأسرتين عظيمتين، كان لهما التأثير الأبرز في عالمنا غربه وشرقه، ذلك الغرب حيث آمن عمومه بعيسى المسيح والشرق الذي دان أغلبه بشريعة محمد الإسلام. إن هاتين الأسرتين اللتين خرج منهما هذان العظيمان جديرتا حقاً بالدراسة والبحث. إذ أنهما ليسا كباقي الأسر، وذلك ليس فيما توفر لهما من بحبوحة العيش وملائمة الظروف، بل على العكس من ذلك حيث شظف العيش وقساوة الظروف ومعاناة اليتم الطبيعي والظرفي. فهذه الظروف لا تساعد ظاهرًا على الدفع بأفضل الناس وأكرمهم وأقدرهم وأقواهم وأندرهم، لنتساءل عن السبب الذي يقف خلف كل ذلك، هل هي الإرادة السماوية؟ أم الحكمة الربانية؟ أم هي عوامل أخرى عضّدت كل هذا. إن المتتبع لسيرهم عليهم السلام والباحث في حياتهم، يعلم أنه بلا شك هناك جهد وفعل إنساني أحسن الاختيار وغلب الظروف وتحدى العقبات وتحرر من الواقع. هنا نقف بإجلال أمام هاتين الأسرتين لنستجلي أسباب تلك العظمة وذلك الشموخ وتلك الأعماق الإنسانية التي أخرجت عظيمين كعيسى ومحمد عليهما السلام، اللذين خرجت من تحت أيديهما أمتان عظيمتان، المسيحية والإسلامية، والتي تلهج ذكرًا حتى اليوم بطهر تربية أنبياءها وعلو من رباهما. في اليوم الدولي للأسرة نعود لمنهج التربية ذاك، إذ نحن بحاجة كبيرة لدراسته وتعميمه لصلاح البشرية وخير الإنسانية، بل وجعله منهاج تتصدى لتطبيقه وتفعيله المؤسسات التعليمية والتربوية في كل العالم فضلاً عن الأفراد والأسر، لأنه أثبت بما لا يدع مجالاً للشك فيه أنه المنهاج الأسمى. وحينما نتكلم عن منهاج التربية هذا، فإنا نتكلم عن أسس صناعة الإنسان وآليات تحفيز قدراته ومواهبه، وعن عملية التنقيب عن الخير في نفوس الأبناء وتسهيل تدفقه كنهر يراق يروي صاحبه كما ترتوي منه الإنسانية. وكذلك نتكلم عن ضرورة وجود القدوة في الأسرة والأهل والتي يستقي منها الأبناء القيم التي سيحيون بها، فعيسى قد رأى أمه جائعة لأنها آثرت طعامها المساكين والمحتاجين فنشأ وهو ينبذ الأنانية ويحب المساكين ويبذل في سبيل الآخرين، كما سمع عن جدته وقد نذرت لله ما في بطنها، فكبر وهو يعمل من أجل الله ويحب في الله ويعطي لله. وكذلك كان محمد، حيث كان من أسرة تقري الضيف وتغيث الملهوف وتؤثر على نفسها مهما عسر الحال وقسا الظرف، وتتعاطى بالإحسان مع الجميع وإن اختلفوا معها. فكان هو كذلك ونهجه هو ذاك، وقد أتى حيث كانت قبائل العرب متناحرة وقراها متقطّعة يملؤها الخوف من بعضها فضلاً عن عدوها، فجاءها ليعيد التوازن والحكمة المفقودة، فأصبح محمد رسول المودة والتقارب والحوار والسلام. وآل عمران كذلك سلالة عرفت بالمحبة والخدمة للآخرين وإن قسا هؤلاء الآخرون وعادوا، فكان عيسى رجل السلام والمحبة وهو من قال «أحبب عدوك». ونحن هنا في كل ما قلناه لا نجرد هؤلاء الأنبياء العظام من فضلهم وعصاميتهم في كل منجزاتهم، ولا نجعل منهم كذلك صنيعة مجردة لأسرهم، ولا نغفل أيضًا عن المعونة والتأييد الرباني من ورائهم، ولكن ما نريده حقيقةً هو بيان الدور الأسري الذي أحاط بهم وغذّى الخير الموجود في دواخلهم وساعد على إخراج إبداعهم ونورهم وعطائهم. فما نود تأكيده عبر كل هذا هو دور الأسرة المحوري والأساسي في كل تطور وإصلاح ونهضة وازدهار شهده ويشهده عالمنا، فحين تبني وتربي أسرة ما أبناءها على أسس صحيحة ومتينة فهي تبني عالماً سليماً. نبارك لكل أسرة على وجه الأرض يومها الدولي، ونتمنى أن ترصف لأبنائها طريقاً إلى المعالي، على خطى آل عمران وبني هاشم، وخطى كل أسرة نقشت لنفسها أثراً بارزاً في حراكنا الإنساني والحضاري، علّنا نحظى بعظماء جدد يساهمون في رفع معاناة الإنسان، ويصلحون ويضيفون ويطورون ويجددون.