^ لا أقول إني لم استمتع بقراءة ما كتبه الزميل مشعل السديري في صحيفة (الشرق الأوسط) السبت الماضي بعنوان “عندما انتشلوا الرئيس الأمريكي (ملط)”، ولكني في الوقت نفسه أشفقت علينا نحن العرب لجلدنا ذواتنا بمناسبة ومن دونها. كان يسعدني لو أن الزميل السديري اطلع قبل كتابة موضوعه على بعض ما كتبه الذين وصفهم بأنهم “يجترون الماضي”، لرأى أن المسلمين لم يكونوا مجرد مترجمين للفلسفة اليونانية القديمة، بل ترجموها وأفادوا منها وطوروها وأنتجوا من علومها الكثير من المدارس العلمية، وهذا ليس عيباً لا للعرب ولا لغيرهم فالحضارات تستفيد الواحدة من منجزات الأخرى، والقانون الأول في الحضارات هو التواصل بين الشعوب والأمم، وهو ما يعرف اليوم بمصطلح “الحوار الحضاري”. ولمن لا يعرف فإن العلماء المسلمين ابتكروا وطوروا العديد من الأدوات والاختراعات في الكثير من مجالات العلم مثل الفلك والكيمياء، ومعظم هذه الاختراعات كانت في العصر الذهبي للإسلام، بالإضافة إلى أنواع متعددة من الإسطرلابات المخترعة أصلاً على يد مريم الإسطرلابي في القرن الثاني قبل الميلاد، لكن تم إدخال العديد من التحسينات المهمة في العالم الإسلامي. ولا نريد الغوص في حديث الإسطرلابات، فإنه يطول، وهو متوفر لمن يريد الاطلاع عليه ولمن يريد أن يتعب قبل أن يكتب. وهل ننسى عباس بن فرناس الذي اخترع نسخة بدائية من مظلة الهبوط أو ما يطلق عليه الآن باراشوت، ثم بنى أول مظلة شراعية، وكان أول من حاول طيراناً مُتَحَكمْاً فيه طبقاً لفيليب حتي في كتابه “تاريخ العرب”. وطار عباس بن فرناس وعاد إلى الموضع الذي طار منه بنجاح، لكن هبوطه لم يكن ناجحاً. وفي العصور الماضية، آمن إقليدس وكلاوديوس بطليموس أن العين تبعث أشعة ضوئية تمكننا من الرؤية، لكن العالم المسلم الحسن بن الهيثم في القرن العاشر كان أول من أدرك أن الأشعة الضوئية لا تنبعث من العين، بل تدخل إليها، وعدّ لذلك أباً لعلم البصريات. والكميائيون المسلمون أول من اخترع عمليات تقطير خالصة مكنتهم من فصل المواد الكميائية بصفة كاملة، كما طوروا أنواعاً عديدة من التقطير مثل الجاف والهدّام والبخاري، واخترعوا أيضاً أدوات تقطير مثل المعوجة والإنبيق والمِقْطر، وابتكروا عمليات كميائية مختلفة وما يزيد عن 2000 مادة كميائية. كما إن صناعة العطور التي ينسب اختراعها إلى الفرنسيين بدأت على يد جابر بن حيان ويعقوب بن إسحاق الكندي. وهل نتحدث عن تقنية الساعة، مثل الساعات الفلكية عالية الدقة لاستخدامها في مراقباتهم، والساعات الشمعية، وغيرها. ويعجب الزميل السديري بنظافة أوربا ويقول إن أعظم اختراعاتها هي الحمام الذي لولاه ما قامت لنا قائمة ولما تطورت مدننا، وهو ربما لم يطلع على أن بغداد العباسيين اشتهرت بحماماتها، إذ ذكرت كتب التاريخ أن عشرة آلاف حمام كانت في بغداد في العصر العباسي الأول، حتى أن مؤرخاً مثل أحمد بن الحسن المنجم قال قولاً ظريفاً: “وجدت مساحة بغداد كلها حمامات ثم طلبت بغداد فلم أجدها من كثرة حماماتها”! وابن بطوطة في رحلته وصف الحمامات البغدادية في الطور المغولي. أما الأكل، الذي تعرض إليه الزميل السديري وقال إن “إحصائية أجرتها المجلة المتخصصة (ريستورانت مغازين) عن أفضل مائة مطعم في أنحاء العالم لم يكن فيها ولا مطعم واحد في ديارنا”، فحسبنا أن نحيله إلى المطبخ العراقي أو مطبخ بلاد ما بين النهرين الذي يبلغ عمره الآن نحو 10 آلاف سنة مرتقياً إلى السومريين والأكديين والبابليين والآشوريين، وفي بعض الألواح التي وجدت في الآثار القديمة في العراق تظهر وصفات لتحضير الطعام الذي كان يعد في المعابد أثناء الأعياد الدينية، وتعد هذه الألواح من كتب الطبخ الأولى في العالم العراق القديم. وفي عصر القرون الوسطى عندما كانت بغداد عاصمة للخلافة العباسية بلغ المطبخ العراقي ذروته، وهو إلى الآن يعكس هذا الميراث الغني. ولكي لا نبخس أنفسنا أشياءها ولا نصوب سهماً إلى أمتنا مع سهام الأعداء فإن لأمتنا تاريخاً طويلاً ليس من الصحيح أن لا نطلع عليه قبل أن نكتب عن تاريخها وهي التي تردد مع شاعرها المتنبي اليوم: رماني الدهر بالأرزاء حتى فؤادي في غشاء من نبال فصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال