^  إن أخطر ما يعترض تطور وضع المرأة ومشاركتها السياسية يتعلق بتراجع تأثير المدرسة الفكرية الإصلاحية التي شكلت القاعدة الأساسية للتحديث في بدايات القرن الماضي، والتي امتدت إلى الرموز الفكرية الشامخة على امتداد الوطن العربي.. وتمثلت أهم أسباب هذا التراجع في نمو تيارات فكرية اصطفت من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، والتي عمد بعضها إلى الخلط بين “التحديث” و«التغريب» كمنطلق للهجوم على المشروع التحديثي الإصلاحي، أو تلك التي أعطت أولوية لمواجهة التحديات الخارجية على حساب البناء الداخلي، فافتقدت نقطة التوازن الصحيحة بين الداخل والخارج، وبالتالي فمن المهم اليوم إعادة الاعتبار لمفهوم التحديث والحداثة الشاملة وإحياء المدرسة الفكرية الإصلاحية الحقيقية للتحديث لأنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعمليات الإصلاح والتنمية التي ينهض عليها أي مجتمع، والتي أساها العقلانية والاجتهاد والتنوير والديمقراطية.. وإذا كان التحديث والنهوض بقضايا المرأة والتنمية الديمقراطية وتطوير التعليم وقضايا الإصلاح السياسي والاجتماعي والتجديد الفكري والثقافي والديني جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الفكرية ومن المشروع الفكري التحديثي للنخبة البحرينية، خلال العقود الماضية من عمليات التحديث وبناء الدولة الوطنية،، فهل مازالت تلك النخبة تلعب نفس الدور وتمتلك مشروعاً فكرياً متكاملاً للعبور إلى المستقبل وهل مايزال لها التأثير الأبرز في هذا الاتجاه أم إن العملية انقلبت على عقب بعد تغلغل التيارات الدينية واستكمال مشروع سيطرتها على المجتمع؟ إن تحليل نتائج ومجريات الانتخابات خلال العقد الأخير من عهد الإصلاح في مملكة البحرين كمجرد مثال- إذا ما صح أن نعتبرها أحد المحكات أو المؤشرات لتحولات المجتمع البحريني وتطور وعيه السياسي والفكري تجاه قضايا الحداثة عامة والمرأة خاصة - قد أشرت إلى تراجع النخبة البحرينية المستنيرة، وفي مقدمتها القوى الليبرالية واليسارية التي ازدادت هامشية وتراجع دورها وتأثيرها على نحو مرعب، بما في ذلك التأثير الثقافي والفكري الذي كانت تتميز به في السابق، خصوصاً بعد استظلال جزء بارز منها بمظلة التيارات الدينية الطائفية انسجاماً مع تحولات المرحلة الجديدة المتسمة بتصاعد تأثير تلك التيارات. صحيح أن معالجة أي قضية من القضايا التي تخص المرأة- بما فيها قضية حقوقها السياسية ودورها في الحياة العامة- بمعزل عن القضايا الأخرى المتعلقة بنهوض المجتمع وتطور وعيه التاريخي يظل حديثاً محدود الأهمية، ولكننا عندما نختار مفردة المرأة للتمثيل بها، فذلك يعود إلى ما تحمله هذه المفردة من قوة الدلالة وحساسية التأثير، إذ إن الحديث عن قضية المرأة يرتبط بالضرورة بمشروع التحديث ككل في مواجهة النزعات الاجتماعية والفكرية المحافظة المهيمنة على المجتمع، كما أظهرته نتائج الانتخابات البرلمانية التي قادتها وسيطرت عليها الجماعات الدينية التي تضع قيوداً على حضور المرأة ومشاركتها في الحياة السياسية، في مقابل عدم معارضة حضورها في المجالات الأخرى، بل وحتى إشراكها ولو شكلياً في التشكيل السياسي لهذه الجمعيات لذر الرماد في العيون. وفي النتيجة فإن التحديث الذي مس المجتمع لم يكن عميقاً، ولم يرتبط بالحداثة قدر ارتباطه بالتقدم المادي والكمي للمجتمع، حيث استمر وجود نمطين مختلفين من الحياة والثقافة، وربما يعود عمر هذه الإشكالية إلى عمر المشروع التحديثي العربي نفسه، أي منذ بدأت تتشكل ثقافة جديدة متفاعلة ومستفيدة مع الثقافة العصرية الحديثة، في حين ظلت الثقافة التقليدية دون تجديد، حيث سارتا في خطين متوازيين، وهذا التوازي خلق بدوره نمطين مختلفين من طرق التفكير والسلوك والتعامل مع القضايا المختلفة.. فمازالت التيارات الدينية المهيمنة على المجتمع اليوم تنظر إلى منظومة قيم الحداثة مثل الحرية والديمقراطية والعقلانية وحقوق المرأة على أنها غريبة عن التراث، أو أنها مجرد منتج للثقافة الغربية، ينبغي التشكيك فيه أو الحذر منه، وهذا الوضع منسجم مع الأصول الفكرية لمجمل هذه الحركات الدينية التي تجمع بشكل أو بآخر، مع اختلافات محدودة على عدم إعطاء المرأة فرصة فاعلة في إدارة الشأن السياسي والتأثير فيه على نحو عميق..