^  أتصوّر إن إحدى المعضلات التي تحول دون إيجاد تسويةٍ سياسيةٍ سريعةٍ للأزمة الراهنة تتمثل في تذبذب خطاب العقل والحكمة، وتراجعه المتنامي أمام خطاب الكراهية والتشفِّي، وأمام أصوات المتشددين الذين يرفعون “سعر” قبولهم للحوارات ومبادرات التهدئة كلما تيقّنوا أن الحراك السياسي تديره مجموعات موتورة يسيطر عليها التفكير الفئوي الانتقامي، والرغبة في أخذ الثأر. وأحد أسباب تراجع صوت العقل والحكمة هو تردّد العقلاء أنفسهم، والنخب السياسية المعتدلة في مقاربتها للأوضاع السياسية، في اتخاذ مواقف تليق بتاريخهم ومقامهم في المجتمع، وتعمل على ترجيح كفة الاعتدال والتسامح أمام كفّة التعصّب المذهبي، والرغبة في “تأديب” الطرف الآخر، وتلقينه درساً لا ينساه على “أفعاله”. ويعود هذا التردّد بدوره إلى عدة عوامل، ومن بينها خوف بعض الشخصيات المعتدلة من تبنِّي آراء حاسمة وصريحة قد “تغضب” الجمعيات والهيئات السياسية ذات الثقل الجماهيري؛ ومراهنة البعض الآخر، للأسف، وبشكل مستتر، على فكرة أن الضغط على الدولة من خلال عمليات التصعيد الجارية في الشارع سيجبرها على التنازل لمطالب الأطراف المشجِّعة للتصعيد، والمستفيدة من ديمومته، وحينها سيجد المعتدل فرصته لتقمّص دور “المنقذ” الذي انتظره الناس طويلاً كي “ينهي آلامهم، ويجبر خواطرهم المكسورة”. غير أن أحد أهم العوامل المهمة التي حدّت من تأثير صوت الاعتدال والحكمة يعود في نظري، إلى عدم اتباع سياسة متوازنة وسديدة في الماضي إزاء الأطراف والتيارات المتصارعة على الساحة، فبينما أُفسح المجال للتيارات الدينية من كلتا الطائفتين بالتحرّك واستقطاب الجمهور من خلال جمع الأموال والتبرعات الخيرية، وحملات التبشير المذهبي في دور العبادة، وجدت القوى العلمانية واليسارية نفسها طرفاً هامشيّاً شبه مغيّب في المجتمع، وبعيد عن مراكز التأثير الجماهيري، وهو ما أدّى بدوره إلى استيلاء القوى المتشدِّدة في شخوص أتباعها ومريديها على مفاصل صنع القرار، وإيجاد بيئةٍ سياسيةٍ معاديةٍ للتقدّم، وطاردةٍ للأفكار المستنيرة، وهو ما يجب على الدولة أن تتداركه قبل فوات الأوان، فتمكين الشخصيات المعتدلة من المشاركة النشطة في صنع القرار السياسي وفي الحوارات المقبلة هو برأيي أحد الشروط المهمة لتجاوز الأزمة الراهنة.