كتابة - رولاند بنروز:
ترجمة - أمين صالح:
يتعيّن على كل فنان أن يجد في عمله طريقته الخاصة في حث خياله لأن يتشكـّل، وأن ينمّي فكرة ما، مهما كانت عادية وتافهة، في عمل فني مشبّع بالمعنى. الفكرة، بالنسبة لميرو، تخطر عند الإحساس بالصدمة، عند درجة من الكثافة التي تكفي لتحقيق توتر الروح، بحيث تفضي إلى نشاط عاطفي جديد. إن خوان ميرو يلح على أهمية أن تكون هناك تنويعة وافرة من الحوادث قادرة على خلق مثل هذه الحالة الذهنية، لكن لا ينبغي أن يتم ذلك عن طريق الاستثارة بـ “وسائل كيميائية مثل المسكرات أو المخدرات”. أيضا لا ينبغي استخدام الطريقة ذاتها أكثر من مرّة لتحقيق تلك الحالة، فذلك يؤدي إلى تشكّـل نظام معيّن قد يتلف أو يحطم التلقائية التي هي عنصر جوهري في هذه العملية. فقط من خلال القنوات المجهولة للاوعي يمكن لتيار الإلهام الرئيسي أن يتدفق بحرية.
مناخ يوترني
يقول ميرو: “أنا أعمل بشكل أفضل عندما لا أعمل. مثل سان بول رو الذي اعتاد على وضع لافتة على بابه تقول (الشاعر يعمل) حين كان ينوي أن ينام”. لكن التوتر الذي يولـّد الأفكار يمكن أن ينشأ أيضا من الحوادث والمفاجآت التي تقع عندما يكون الفنان يقظاً تماما، أو في أثناء الساعات الطويلة حين يتأمل الأشياء التي من المحتمل أن تصبح، بشكل خاص، ذات أهمية بالغة. يقول ميرو: “المناخ الذي يساهم في خلق هذا التوتر، أجده في الشعر، الموسيقى، فن العمارة. في نزهاتي اليومية. في جلبة معينة: ضجيج الخيول في القرية، صرير دولاب عربة نقل، وقع الأقدام، صرخات في الليل. السماء تغمرني وتربكني. مساحات خالية، آفاق خالية، سهول خالية.. كل ما هو عارٍ يمارس فيّ تأثيراً قوياً”. لكن المناخ لا يكون خصباً ومثمراً إلا حين يثير، بطريقة ما، استجابة عميقة وملحة.. “أعمل وأنا في حالة من الرغبة والإلزام، كما لو أن هناك دافعاً لا يقاوم. عندما أبدأ في اللوحة، أطيع دافعاً جسمانياً.. أبدأ لوحتي وأنا تحت تأثير صدمة ما، تجعلني أهرب من الواقع. سبب هذه الصدمة يمكن أن يكون خطاً لونياً صغيرا ناتئاً من الكانفاس، أو قطرة ماء منحدرة، أو بصمة رسمها أصبعي على السطح اللامع لهذه الطاولة. على أية حال، أحتاج إلى نقطة انطلاق، حتى لو كانت مجرد ذرّة من الغبار أو التماعه ضوء. هذا الشكل يسبّب سلسلة من الأشياء. شيء يولـّد شيئا آخر”. ما إن تشرع الصدمة الأولية في تحريك الخيال حتى تتبعها عملية أخرى.. “كنت أشعر دوماً بأنني أشبه بحشرة ذات قرون استشعار. أحوم، وأجد نفسي موجها بشكل غامض نحو اكتشافات أخرى”.
الاكتشافات تتجسد
حالما يتحقق الاتصال بينه وبين عمله، تبدأ الاكتشافات في التجسد بفعل أحداث تقع بالصدفة في اللوحة ذاتها. اللوحة التي تكتسب حياة مستقلة تقدم تغذية استرجاعية متواصلة. لكن العملية ليست متواصلة بالضرورة.. ففي مرسمه، يحتفظ ميرو بعدد كبير من اللوحات، بعضها لم تكتمل والأخرى تنتظر – ربما لسنوات- تلك اللحظة التي يتحقق فيها الاتصال الحميمي بينه وبين العمل بحيث يتيح له أن يؤسس الحالة الأخيرة من التوتر التي يرغب في احتوائها. حين يحدث ذلك، ينشأ إحساس بالانفصال، ويتحول اهتمامه من العمل المنجز إلى اللوحات الأكثر طراوة والأقل اكتمالاً، والتي ينفث فيها الحياة باستمرار. ورغم ارتيابه في كل النظم والمناهج، إلا أنه يثق بمصادر معينة يعتمد عليها عادةً من أجل التحفيز والإثارة. بالإضافة إلى الأحداث التي تقع بالصدفة، والمصادر اللا محدودة للطبيعة، فإنه يحتفظ بذخيرة من الأشياء التي تمتلك أهمية ودلالة خاصة واستفزازية، فضلا عن الصور المنزوعة من المجلات والمثبتة على الجدار، والتي تبدو ملفتة للنظر سواء لما تحتويه من خيال جامح أو لكونها عادية جدا. بين هذه المواد الأولية، والعمل المنجز، يكمن الدرب المرصوف بالتردد والشك. أكداس من اللوحات المختلفة الأحجام، في حالات متفاوتة من التحضير والصياغة، ومنحوتات لم تكتمل بعد، موزعة في أرجاء المرسم تنتظر اللحظة التي تكتمل فيها. إن ميرو لا يهملها، ولا يستطيع أن يتجاهلها، لأنها تشغل باله وتتحرك في ذهنه إلى أن يحين الوقت الذي لا يمكن التنبؤ به.
مظهر دقيق للخيوط
أحيانا يستقبل القماش الفارغ الخطوط الأولى، المرسومة بشكل خفيف، لفكرة ما والتي ربما لا تنمو إلا بعد شهور، حين يشعر ميرو بالمظهر الدقيق للخطوط الغالبة والألوان التي ترافقها. أحيانا، عندما ينتهي عمله اليومي، يقوم ميرو بمسح مديته (التي يمزج بها الألوان)، أو يديه، أو حتى قدميه، على قماش جديد تاركاً على سطحه أشكالا من النقط الملوّنة أو البقع أو آثار قدم. إن مصادفات كهذه هي في الأساس مناورات مكشوفة تهدف إلى شق ممرات جديدة للأفكار، وفتح أبواب فجائية للخيال.
إن رصد ميرو ليس مقتصرا بالضرورة على المصادفة أو الطبيعة، رغم أنها توفر موارد غير محدودة. فمثلما استلهم في لوحته “مداخل هولندية” رسومات تنتمي إلى القرن السابع عشر في متاحف هولندا، فإنه أيضاً يجد أهمية غير متوقعة في الأعمال التجارية المبتذلة، ذات القيم الزائفة، التي يباشر إلى تحويلها بإضافة إشارات وعلامات قوية ونشطة، منبثقة من واقع أحلامه الزائل. كذلك يختار منظراًَ طبيعياً تافهاً وسوقياً، رسمه فنان مغمور، ليضفي عليه – كرد فعل إزاء الابتذال والفظاظة- مسحة خاصة بإضافة ألوان بهيجة وخلق إيقاع قوي من الخطوط والألوان. والنتيجة هي خلق واقع جديد وخيالي يشكـّل تزاوجاً غريباً بين تصوير غير ملائم ورمزية شعرية قوية.
هويات جديدة مغايرة
إن قدرة ميرو على استخدام صور مستعارة، وأشياء قابلة للإدراك والتمييز، تتخطى فناً ثنائي البعد (الرسم)، لتجد مجالاً رحيباً في النحت، إذ يقوم بتحويل الأشياء إلى منحوتات تحمل هويات جديدة، مغايرة في الأغلب. إنه يجمع تشكيلة هائلة من المواد والأشياء المهجورة والمهمَلة، التي تأسره بدلالاتها المستترة.. وكما يقول صديقه براتس: “الحجارة التي ألتقطها هي مجرد حجارة، لكن حين يلتقطها ميرو تصبح هي ميرو”. زوايا مرسمه مزدحمة بقطع صدئة من الحديد، بأسلاك لولبية، عظام، أجراس كهربائية مكسورة، أبواق، جذور، أحجار، قدور، أدوات زراعية، أشرطة ورقية أو معدنية لماعة. التجاورات والتقابلات الفجائية بين مواد كهذه غالبا ما تكون مفعمة بالدعابة، لكنها أيضا جزء من لعبة سحرية مهيبة يبرز فيها ميرو مهارته.