^   التجربة الديمقراطية في الوطن العربي مصابة بعقم عام في مسارها التاريخي، من مظاهره غلبة الصراعات والمنازعات البدائية والأيديولوجية على التوجه التاريخي العام لتطور التجربة، بما في ذلك مقتضيات القبول بحق الاختلاف والتعايش السلمي ليس على مضض، ولكن كمعطى يثري المجتمع ويبني قوته، إلا أن الإشكالية عندنا تكمن في الاتجاه السائد بين الدولة أو الأحزاب والأفراد والطوائف والجماعات، والمتمثل في الميل نحو التعصب والدغمائية، ونحو الانتقائية، إلى درجة أنه أصبح لكل طرف حقيقته الخاصة أو روايته الخاصة ونظرته الخاصة التي يمكن أن يفبركها للدفاع عن رؤيته وموقفه، في حين أن العقل لا يسلم بمنطق الحقيقة الواحدة، ولذلك فإن النقد المتواصل للمفاهيم ولمنظومات الأفكار يظل جزءاً أصيلاً في كل فكر حر، بعكس الخطاب الأيديولوجي السائد اليوم والمكرس من الجمعيات السياسية، والذي يتكون من مزيج متنافر من الأفكار والمشاعر الجامحة والطموحات الكبيرة والصغيرة التي يتم اختزالها في شعارات قليلة يسهل حفظها وتداولها والترويج لها في المجتمع بكل سهولة حتى دون إدراك لما تتضمنه من تناقض ومفارقات غير منطقية، مثل شعار الديمقراطية الذي يفرغه من أي محتوى القول بالقداسة للأفراد على أساس ديني، ومثل شعار الدولة المدنية الذي يفرغه من محتواه، القول بحكم الشريعة، ومثل القول بالتداول السلمي للسلطة الذي يفرغه من محتواه القول الفصل بعلوية وسرمدية حكم وسلطة رجال الدين...ألخ ونظراً لأن مبدأ المصلحة مبدأ مؤسس للخطاب الأيديولوجي ومبرر لمشروعيته، فإن كل من يختلف عن هذه الجماعات الأيديولوجية السائدة أو يختلف معها يعتبر خصماً وعدواً لدوداً، وقد شهدنا فصولاً من هذه المواجهات الملتبسة بصياغات وأدوات مختلفة كان يمكن أن تتطور لتتخذ أشكالاً من العنف والمواجهات الدامية، وذلك لأن الخطاب الأيديولوجي هو خطاب قوة وسلطة وحينما تتاح له الفرصة يسيطر ويهيمن على ما سواه، وهنا تحديداً تبرز أهمية الخطاب الفكري الحر، ففكر الاختلاف والقبول بحق الاختلاف تكرّست مقولاته في معظم المجتمعات الغربية هو الذي ينظم العلاقات التنافسية بين مختلف القوى الأيديولوجية، وهو لا يؤمِّن هذه الوظيفة الحيوية لأن الناس متسامحون بل لأن تجربة الحياة وأحداث التاريخ القاسية جعلتهم يسلِّمون بأن الصراعات غير المنظمة بقوانين تعاقدية تحقق مصالح الأغلبية في المجتمع تؤدي حتماً إلى نتائج كارثية على المجتمع والدولة. وهكذا أصبحت القوانين الفاعلة فـي المؤسسات كافة مبنية صراحة أو ضمناً على حقوق تكفل لكل فرد ولكل فئة اجتماعية حرية التفكير والتعبير والتنظيم والعمل في إطار ديمقراطي سلمي لا يستطيع أحد التنكر له أو الخروج عنه إلا وأدانه القانون العام. وقد توجد حتى في البلدان الديمقراطية، جماعات حزبية متطرفة لكنها تظل على الهامش غير فاعلة وغير مؤثرة ولكن يسمح لهــا بالتعبير عن أفكارها كغيرها لكنها تظل واعية جيداً بهامشيتها وقابلة بها، أما حينما تتبنى منطق العنف وتمارسه في لحظة ما فإن قمعها المؤكد لا يعود عقاباً من السلطة بل يكون عقاباً يتم باسم القانون وثقافة الأغلبية العظمى من المجتمع.