^ لم يكن هناك ما هو أكثر ازدحاماً من صالة معرض الكتاب الدولي المقام حالياً في “عاصمة الثقافة العربية”، المنامة، سوى البرنامج المصاحب له، والفعاليات التي تقام على هامشه، والتي تحولت البحرين بفضلهما (المعرض والفعاليات)، إلى خلية نحل صاخبة يتعانق فيها أداء المشاركين في تلك الفعاليات، مع الجمهور المتفاعل معهم. مساء الخميس يقف المواطن البحريني حائراً متردداً أمام أكثر من خيار صعب، هل يبقى في قاعة المعرض كي يستمع إلى محاضرتين دسمتين بعنوان “شروط وحدة الثقافة العربية” و« الثقافة مشغل التنوير” للباحثين أبو يعرب المرزوقي، ومحمد الحداد على التوالي، أم يتوجه إلى الصالة الثقافية كي يمضي أمسية ممتعة تصدح فيها أصوات “فرقة الفيحاء” الأرمنية، موسيقى وغناء، وبدون ميكروفونات، بأغانٍ لـ فيروز، وسيد درويش، وعبدالوهاب، وزكي ناصيف؟ أحزم أمري، وأتوجه إلى الصالة، معشماً النفس بقراءة لاحقة لما سيرد في المحاضرتين، إذ أن لكل حفلة، حتى وإن تكررت، نكهتها الخاصة التي يصعب استعادتها، ومن ثم يستحيل معايشتها. أول تساؤل يقتحم ذهن المستمع دون استئذان، ويشده وهو يتابع أداء الفرقة، التي تأسست، وعرفت النور في العام 2003، والمكونة من أربعين منشداً بين شاب وفتاة، يقودهم بمهارة فطرية متألقة، ومهنية فنية بارقة باركيف تاسلاكليان، هو كيف لمثل هذه الفرقة أن تنطلق من لبنان، حيث تتصاعد أدخنة الانفجارات العبثية، التي لم تتوقف منذ اندلاع الحرب الأهلية في بيروت في العام 1975، بل ويتجاوز حضور تلك الفرقة الحدود اللبنانية والعربية كي تشارك في مهرجانات فنية دولية، وتحصد جوائزها المتقدمة فيها؟ بعد أن يصفو الذهن، وتتلاشى آخر ترنيمة للفنانة الشابة من الفرقة، رولى أبو بكر، التي أتقنت أداء أغنيات صعبة مثل “حـــوّل يا غنام”، تثير الفرقة وأداؤها في ذهن المستمع ثلاث قضايا أساسية متشعبة لكنها متكاملة هي: الأولى ذات طابع فني، إذ كيف لفرقة من أصول أرمنية في الأساس، أن تتجه نحو الغناء العربي -دون إغفال اهتمامها بالفن الأرمني- الذي استمتع به أيضاً من حضر تلك الأمسية، عندما أنشدت “الفيحاء” أغنية أرمنية - وتتقنه، بل وتتقن، بمهارة تشد المستمع، أداء أكثر الأغاني العربية صعوبة، مثل “حول يا غنام”، و«طلعت يا ما أحلى نورها شمس الشموسة”، و«بعدك على بالي”. ما يضاعف من صعوبة الأداء هو استبعاد الفرقة لأي من المؤثرات الصوتية أو الموسيقية الخارجية، لكونها تستبدل الآلات الموسيقية، بحاجر المنشدين، التي يقول عنها قائد الفرقة تاسلاكليان، أنها أفضل الأدوات الموسيقية، لأنها، كما يصفها “هبة من الله، ونقية طبيعية خالصة، لم تمسها مؤثرات صناعية”. بل نراه يعتبر أن مثل هذا الأداء يساهم في “ تطوير التراث بطريقة طبيعية دون إلكترونيك، ولا ميكروفونات، وهي أصعب طريقة في الفن، وبذلك نصنع الموسيقى بحناجرنا”. يختلف تاسلاكيان هنا، ومن الناحية الفنية، عن قادة فرق موسيقية عربية أخرى، مشهورين أيضاً، من أمثال المصري عبدالحليم نويرة، واللبناني سليم سحّاب اللبنانية، لكونه يلغي تماماً الاستعانة بالآلات الموسيقية. الثانية خلفيتها سياسية، ومستمدة من الجولات التي قامت بها “فرقة الفيحاء” في أكثر من عاصمة أوروبية، والجوائز التي حازت عليها، لعل الأهم بينها الجائزتان اللتان حصدتهما في بولونيا في العام، 2007 بمشاركتها في “مهرجان وارسو الدولي للغناء الجماعي وفوزها بجائزتي: “أفضل جوقة”، و«أفضل مايسترو”. وكانت الجوقة، قد نالت في العام 2005، الجائزة الثانية من ذاك المهرجان. تضع هذه الجوائز الفرقة، فنياً، في مصاف الفرق العالمية، مما يبيح لها مخاطبة الجمهور غير العربي بشكل مباشر، وتوعيته بقضايانا العربية التي شوهها الإعلام الصهيوني، وكرسها الجهل العربي، وأصر على الاستمرار فيها واستمرائها التخلف العربي. هناك إمكانية كبيرة، فيما لو حازت الفرقة على الاهتمام العربي الرسمي، غير المتسلط، والرعاية المدنية المتحضرة غير الأبوية، أن تتحول إلى رسول ثقافي، يحمل بين يديه رسالة سياسية، يبني من خلالها جسور الاتصال والتواصل مع المجتمع الدولي، من خلال قنوات حضارية متمكنة تتقن نسج مثل تلك العلاقات الراقية، التي نحن في أمس الحاجة لها. تجدر الإشارة هنا، إلى أنه رغم نفي تاسلاكليان لدوره السياسي، لكنه الفرق غنت، وبشكل “سياسي”، لفلسطين، وأغانٍ فلسطينية أيضاً. الثالثة مصدرها فني، يتزاوج مع بعد حضاري، ويشكل قضية في غاية الأهمية يثيرها المايسترو باركيف تاسلاكيان، الذي يقود الفرقة الكورالية، في حديث خص به جريدة “الشرق الأوسط” اللندنية، وأثار فيها مخاوفه من تشويه التراث الفني العربي حيث “بأنه لايزال هناك الكثير مما يمكن أن يتعلمه العالم من الموسيقى العربية. فهذا التراث الضخم غير مكتوب بنوتات موسيقية تحفظه وتصونه، وتتناقله الأجيال شفاهة، لذلك غالباً ما يحرّف بمرور الوقت”. ولهذا يحرص تاسلاكيان، كما يقول على “تدوين النوتات الموسيقية لما نغنيه ونكتب الكلمات أيضاً بأحرف لاتينية، هكذا صار بمقدور أي فرقة في العالم أن تغني الأغنيات العربية التي نؤديها حين نزودهم بها”. نضيف هنا إلى تلك المخاوف من التشويه العفوية، تحذيرات أخرى من السرقة، وعلى أيدي المؤسسة الصهيونية العالمية، التي رصدت عشرات الملايين من الدولارات لسرقة الموروثات العربية، بتحريفها أولاً، ونسبتها إلى التراث اليهودي ثانياً، ولا يقتصر الأمر هنا على القضايا الفنية، بل يتسع ليشمل جوانب حضارية أخرى، بما فيها “المطبخ العربي”. لقد أرسلت فرقة الفيحاء للعالم أجمع رسالة حضارية عربية، خطتها الأنامل الأرمنية، ولمن فاته حضور الأمسية، ويريد أن يعوضها بالاستماع إلى أداء فرقة “كورال الفيحاء”، فبوسعه زيارة موقعها على الإنترنت على العنوان التالي: www.fayhachoir.org