بقلم ـ حمد إبراهيم عبدالله:
لم تتحول الولايات المتحدة الأمريكية بين عشيةٍ وضحاها إلى دولة عظمى، بل وصلت إلى هذه المرحلة بفضل سواعد أبنائها ودمائهم ممن ضحوا في سبيل وحدة البلاد وترسيخ ما يؤمنون به من مبادئ وقيم ومثل، ما يملي علينا التوقف عند مرحلة مهمة كان لها بالغ الأثر في تاريخ الدولة وكانت سبباً في تأسيسها وتطورها بشكل غير مباشر في المجالات كافة.
أودت الحرب الأهلية الأمريكية 1861 ـ 1865 بحياة 620 ألف أمريكي، وهو عددٌ أكبر مما حصدته الحرب العالمية الثانية، ويضع الباحث بين يدي القارئ اليوم ملخصاً لبحث مطول عن الحرب الأهلية الأمريكية.
الحرب الأهلية الأمريكية
عندما يتجول الباحث والمُهتم بالتاريخ العالمي بين جنبات مكتباتنا العربية، قلما يجد كتاباً يستعرض ماضي حضاراتٍ أجنبية مثل حضارة المايا والإنكا وحتى الحضارات الآسيوية والأفريقية والأمريكية وغيرها من الأمم والشعوب، ويجد الباحث نفسه كمهتمٍ بالتاريخ العالمي أمام تحديين كبيرين، أولهما ضعف تأريخ الشخصيات غير العربية والأحداث التاريخية التي تعرضت لها المنطقة، والتحدي الثاني يكمن في ضعف تأريخ مؤرخينا العرب بشكلٍ عام والمؤرخين الخليجيين بشكلٍ خاص للتاريخ العالمي، وهو دافعٌ لطرق باب هذه الموضوعات والخوض فيها ودراستها وعرضها للقارئ الخليجي والعربي.
نأمل أن يكون هذا البحث المختصر بداية لسلسلة أبحاث تستعرض أحداثاً وشخصياتٍ عالمية كان لها بالغ الأثر في تشكيل خارطة العالم اليوم.
حين يستعرض المؤرخون تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية يميلون إلى التركيز وبشكل كبير على العلاقات الأمريكية الخارجية، ويرجع ذلك إلى هيمنة الولايات المتحدة على عملية صنع القرار عالمياً، ولكن قلما يستعرض المؤرخون في الوطن العربي واقع وتاريخ الدولة التي سادت العالم بقوتها الصناعية والعسكرية والاقتصادية خاصة بعد أن أُسدل الستار على الحرب العالمية الثانية 1939 ـ 1945.
التاريخ الغربي
يجهل الكثيرون أن الحرب الأهلية الأمريكية هي من أكثر الحروب التي كُتب عنها في العالم الغربي، إذ تتعدى أعداد الكتب المنشورة عنها تلك المنشورة عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، ورغم صعوبة حصر أعداد الكتب المطبوعة في العالم الغربي عن الحرب الأهلية الأمريكية إلا أنه من المتوقع حسب بعض الإحصاءات أنها تتراوح مابين 50 و70 ألف كتاب منذ نهاية الحرب وحتى اليوم، ولعل العدد في ازدياد بسبب سهولة طباعة الكتب في عصرنا الحاضر وسهولة الحصول على المعلومة عبر شبكة الإنترنت.
لم يترك المؤرخون الغربيون بشكل عام والأمريكيون بشكل خاص الموضوعات التي تعرضت للحرب الأهلية إلا وطرقوها، فنجد في بعض الأحيان كتباً تستعرض أهم وأبرز الأدوات الطبية المستخدمة في الحرب، وأخرى تستعرض دور الاستخبارات والعملاء في سير الحرب، والبعض الآخر يبحر في أجواء معركةٍ عسكريةٍ بعينها، كما نجد البعض يعالج حال الأسرى.
وأمام هذا الزخم الكبير من المؤلفات التاريخية الثانوية عن الحرب الأهلية إضافة إلى المراجع الرئيسة وهي عبارة عن كتب ومذكرات ورسائل القادة العسكريين والجنود ومن عاصر هذه الحقبة الزمنية المهمة من تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، نحصر أبرز تلك المؤلفات في 3 مؤلفات رئيسة وهي كتاب «محنة الاتحاد» ويتألف من 8 مجلدات تستعرض أبرز أحداث الحرب من تأليف آلان نيفينز، و»حكاية الحرب الأهلية» من إعداد شيلبي فوت، و»معركة صيحة الحرية» من تأليف جيمس ماكفرسون.
أمام هذه الأعداد الهائلة من المؤلفات والاهتمام الغربي بالحرب الأهلية نطرح مجموعة من الأسئلة منها، هل طبع الكتاب أو المؤرخون في وطننا العربي عدداً مماثلاً من الكتب عن أي موضوع؟ هل تُعطينا تلك الإحصاءات مؤشراً عن ضعف التأريخ والكتابة والقراءة في وطننا العربي؟.
الحروب الأهلية
تتصف الحروب الأهلية عن سائر الحروب الأخرى بأن الطرفين المتنازعين في الحرب يعرفان بعضهما الآخر جيداً، حيث تصل هذه الحروب في كثيرٍ من الأحيان إلى اقتتال الأخ مع أخيه والابن مع والده، فتكون الحرب أشد ضراوة في كثيرٍ من الأحيان عما سواها من النزاعات.
ومن الممكن تعريف الحرب الأهلية على أنها صراعٌ مسلح بين طرفين أو أكثر يتشاركان العيش في بلد أو إقليمٍ واحد، وعادة ما يتسبب اختلاف الرأي أو التحزب أو الصراعات الدينية أو العنصرية في إشعال فتيل مثل هذه الأنواع من الحروب، بمحاولة من الأطراف المتنازعة إلى إخضاع الطرف الآخر والهيمنة السياسية والاقتصادية وفي بعض الأحيان الثقافية على الدولة.
ومن بين أبرز الحروب الأهلية التي شهدها تاريخنا المعاصر الحرب الأهلية الإسبانية 1936 ـ 1939، والحرب الأهلية اللبنانية 1975 ـ 1990م والحرب اليوغوسلافية 1991 ـ 1995.
حددنا المراحل التي يمر بها أي نزاعٍ أهلي ليتحول إلى حرب عامة وحصرناها في 5 مراحل رئيسة تشمل الخلاف والتراشق الإعلامي والتصعيد والاشتباك العشوائي وأخيراً الحرب المفتوحة، وكأي صراعٍ آخر مرت الحرب الأهلية الأمريكية بتلك المراحل وتمخضت عن حرب ضروس دامت قرابة 5 أعوام.
أسبابها
أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية استقلالها عن بريطانيا يوم 4 يوليو 1776، ما دفع البريطانيون إلى تنظيم حملات عسكرية لإخضاع مستعمرتهم إلى التاج البريطاني، وشاركت كلٌ من فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية في جهودها الحربية ضد البريطانيين، وساهمت مشاركتهم في إنهاء المعارك لصالح الأمريكيين حتى أعلنت بريطانيا العظمى رسمياً اعترافها بعد توقيع معاهدة باريس عام 1783، بسلطة وسيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وفي عام 1787 تم الانتهاء من صياغة الدستور الأمريكي.
عندما نالت الولايات المتحدة استقلالها لم تكن كما نعهدها اليوم بضخامتها الجغرافية، فلم تتكون سوى من ولاياتٍ معدودة على عكس واقعها اليوم، حيث تتكون الدولة اليوم من 50 ولاية، ولكنها كانت في توسعٍ مستمر غرباً وبالأخص منذ عهد الاستقلال، وكانت كلما تُكتشف أرضٌ جديدة أو تُغنم من أيدي سكان أمريكا الأصليين وهم الهنود الحمر، تُؤسس ولايات جديدة وتُستوطن من قبل الأوروبيين النازحين من القارة الأوروبية إلى أمريكا الشمالية بحثاً عن لقمة العيش أو هرباً من الاضطهاد الديني، ومنذ استقلال الولايات المتحدة الأمريكية وحتى تولي إبراهام لينكون رئاسة الدولة عام 1861 تعاقب على رئاسة الدولة 15 رئيساً.
في أوائل القرن التاسع عشر للميلاد كانت تجارة الرقيق في الولايات المتحدة على أشدها، وكان يُجلب الرقيق من القارة الأفريقية لمساعدة الأمريكيين في الزراعة والأعمال الشاقة، وكانوا يعاملون بطريقةٍ قاسيةٍ وظالمةٍ ويسكنون في بيوتٍ غير صحية. دفعت هذه المعاملة الظالمة بعض المفكرين والكتاب للنهوض ومواجهة مثل هذه الظاهرة القاسية وإرسال رسالة إلى المجتمع الأمريكي بأهمية تحسين معيشة الرقيق وتبيان ما يتعرضوا له من أذىً في المزارع، وكان هذا الفكر رائداً آنذاك، فلم تكن الأغلبية تتفق مع هذا الرأي ولم تكن على درايةٍ بما يتعرض له الرقيق.
من أبرز الكتابات التي ساهمت حينئذٍ في تبيان ما يتعرض له الرقيق في أمريكا من أذى هو كتاب الروائية هيريت بيتشر ستو بعنوان «كوخ العم توم»، ونُشر لأول مرة عام 1852، وأصبح الكتاب من أكثر الكتب مبيعاً بعد «الكتاب المقدس» في الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك القرن.
استطاعت الراوية أن تحرك مشاعر الملايين من الناس ضد تجارة الرقيق والجنوب الأمريكي الذي اشتهر بتلك التجارة بشكلٍ عام.
ولم ينسَ أهل الجنوب الأمريكي قبل نشر رواية هيريت بيتشر ستو ما قام به أحد الرقيق بولاية فرجينيا وتحديداً عام 1831 حين قاد نيت تيرنر ثورةً عارمةً في ولاية فرجينيا عندما أقدم هو ومعاونه على الاعتداء على المزارع والمحاصيل وقتل ملاكها وحراسها من البيض حتى يتمكنوا من فك أسر الرقيق.
ازدادت بذلك أعداد الثوار من الرقيق وعمت الفوضى القرى والطرق حتى تمكنت مجموعةٌ من المتطوعين البيض من إخماد تلك الثورة وألقي القبض على تيرنر في 30 أكتوبر 1831، فحُكم عليه بالإعدام شنقاً ونُفذت عملية الإعدام يوم 11 نوفمبر 1831.
بُعيد هذه الثورة طّبق الجنوب على رقيقهم قوانين صارمة لتحد من قيامهم مستقبلاً بالثورة عليهم حتى حّرم الكثيرون منهم على رقيقهم تعلم مبادئ القراءة والكتابة.
مع هذه التطورات وفي عام 1833 أشهر مجموعةٌ من الكتاب والمثقفين «الجمعية الأمريكية لإلغاء تجارة الرقيق»، وكان من أبرز مؤسسي الجمعية وليام لويد غاريسون وآرثر تابان وأخاه لويس تابان، ومن أبرز أعضاء الجمعية كان الكاتب والمُصلح الأمريكي من ذوي أصولٍ أفريقية فريدريك دوغلاس، وهو من مواليد 14 فبراير 1818، ويُعتبر دوغلاس من أهم قادة إلغاء تجارة الرقيق في الولايات المتحدة الأمريكية.
بحلول منتصف القرن التاسع عشر للميلاد أخذت تظهر فوارق اجتماعية كبيرة بين الشمال والجنوب الأمريكي، ومن أبرز الفوارق التي طفت على الساحة تقدم الشمال تكنولوجياً عن الجنوب الأمريكي، فكان الشمال الأمريكي يزخر بالمصانع ويصنع ويستورد أحدث الأجهزة المتطورة من أوروبا، بينما ظل الجنوب يعتمد مباشرة على الزراعة والفلاحة وتصدير وبيع القطن، وبذلك أصبح أهل الشمال أكثر قابليةً للانفتاح والتمدن عن أهل الجنوب الأمريكي.
أخذت الفوارق بين الشمال والجنوب تنمو مع مرور السنوات وبدأ يتضح جلياً أن الشماليين وساستهم كانوا مع الحد من تجارة الرقيق وحتى إنهائها، ولكن أهل الجنوب كانوا مصرين على مواصلة تجارتهم للرقيق حيث إن تعطيل مسألة تجارة وتبادل الرقيق يعني إلحاق ضررٍ تام يمس صلب اقتصاد ولايات الجنوب، الذي كان يعتمد بشكلٍ شبه كلي على الأيدي العاملة لزراعة المحاصيل وحصدها وتصديرها.
أخذ الاختلاف بين الطرفين يأخذ منحىً آخر غير سلمي خاصة في الولايات الجديدة المُستعمرة، فالسماح بتجارة الرقيق في الولايات الجديدة يعني انضمام تلك الولايات إلى الجنوب، ما يعني كسب أصواتٍ ومقاعد ومكاسب سياسية في واشنطن ضد الشمال.
كانت السياسة تلعب دوراً كبيراً في تأجيج الصراع بين أهل الشمال والجنوب حتى أدى إلى مصادمات مُسلحة في الولايات المستعمرة الجديدة، وكانت على وشك الانضمام إلى الاتحاد الأمريكي، وخير مثال على ذلك الصدامات الواقعة في كانساس.
تنازع الطرفان للسيطرة على سياسة الإقليم الجديد حتى يكسبوا تأييد المستوطنة وصوتها سياسياً في حالة انضمامها كولايةٍ إلى اتحاد الولايات المتحدة الأمريكية لاحقاً.
وعُرف مؤيدو إنهاء نظام الرقيق في الولاية باسم الـ»جي هوكرز» فيما عُرف مؤيدو تجارة الرقيق باسم الـ»بوردر روفاين»، وقبل انضمام كانساس إلى اتحاد الولايات المتحدة كانت المقاعد المخصصة في مجلس الشيوخ الأمريكي للولايات، وزعت بشكلٍ متساوٍ بين الولايات التي عارضت نظام تجارة الرقيق وبين تلك التي سمحت به، فأيقن الجميع أن السيطرة على كانساس لا تعني فقط السيطرة على ولايةٍ أمريكيةٍ جديدة فحسب بل السيطرة على قرارات وسياسات مجلس الشيوخ الأمريكي والسياسة الأمريكية بشكلٍ عام.
بدأت أولى شرارات النزاع عام 1854 واستمرت 6 أعوام حتى العام 1860، ومهدت تلك النزاعات لنشوب الحرب الأهلية الأمريكية لاحقاً عام 1861، وعُرف النزاع باسم «كانساس تنزف» أو «نزيف كانساس»، من قبل الصحافي الأمريكي هوراس غريلي التابع لصحيفة «النيويورك تريبيون»، وهو أيضاً عضوٌ سابق لمجلس النواب الأمريكي.
أدت الأوضاع السياسية المحتدمة إلى نزوح عددٍ من المتطوعين من كلا الطرفين للمشاركة في عملية النضال من أجل قضيتهم، ومن بين أولئك الذين ارتحلوا إلى كانساس المناضل والسياسي الأمريكي جون براون والذي يعتبره العديد من الأمريكان اليوم بطلاً قومياً ورمزاً للحرية والمساواة بالرغم من الجدل الذي يحيط بشخصه نظراً لاستعماله العنف والقوة لتحقيق مبتغاه، وكان براون من أبرز معارضي نظام الرقيق المعمول به في الجنوب وأبرز الداعين لإنهاء جميع أشكال الرق.
اختلف المؤرخون حول الحصيلة الإجمالية لعدد المتوفين بسبب أعمال العنف والتخريب في كانساس فالعديد من المؤرخين توقعوا أن عدد الوفيات بلغ ما يقارب من 200 حالة وفاة، فيما ذكر الكاتب الأمريكي روبرت دبليو ريتشموند في كتاباته بأنه يصعب على المؤرخين استنتاج العدد الإجمالي لضحايا أعمال التخريب في كانساس واعتبر أن الحصيلة النهائية لعدد الضحايا أقل بكثير مما هو مؤرخ عند البعض، واعتقد ريتشموند أيضاً أن العدد الإجمالي للوفيات يقارب 50 حالة وفاةٍ بدلاً من المائتين.
زاد كلٌ من التصعيد المسلح والفوارق الاجتماعية والاقتصادية من الجدل في أروقة صناع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية وهّم السياسيون على دراسة أحقية الولايات سياسياً لتحديد المصير واختيار التشريعات التي تُناسبها وإن اختلفت قيمها مع السلطة المركزية، والبعض الآخر دعم فكرة سيطرة السلطة المركزية على السياسة العامة للدولة. جاء انتخاب إبراهام لينكولن بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير في الجنوب الأمريكي، فقد عُرف عن لينكون أفكاره التقدمية ومعارضته العلنية لمسألة تجارة الرقيق ما دعا الجنوب إلى أخذ منحى سياسي معادٍ لواشنطن، فأعلنت ولاية فرجينيا انسحابها من الاتحاد الأمريكي وتبعتها مجموعة من الولايات وهي ولايات ساوث كارولينا وفلوريدا وجورجيا وميسيسيبي ولويزيانا وألاباما وتكساس. وأعلنت تلك الولايات فيما بعد قيام كيان ودولة جديدة مُنفصلة عن الولايات المتحدة الأمريكية عُرفت تلك الدولة باسم الولايات الكونفدراية الأمريكية، وتم اختيار جفرسون ديفيس لرئاسة الدولة، وعلى إثر هذه التداعيات هاجم أنصار الانفصال حصن سمتر بولاية ساوث كارولينا واستولو عليه في أبريل 1861، وبذلك انطلقت أولى شرارات الحرب الأهلية الأمريكية.
الباحث في سطور
حمد إبراهيم يوسف عبدالله، مؤرخ وباحث بحريني يعمل حالياً على بحث رسالة الدكتوراه في التاريخ بجامعة إيست آنغليا بالمملكة المتحدة، وله 3 إصدارات بعنوان «إيتوري ميوتي أسطورة إيطاليا الفاشية» و»صموئيل زويمر لقاء المسيحية بالإسلام» و»تشارلز بلجريف في ظلال واحة سيوة»، وهو عضو في جمعية تاريخ وآثار البحرين وجمعية المائدة المستديرة للحرب الأهلية الأمريكية في المملكة المتحدة.