كتب ـ علي الشرقاوي:
في عمان لا يمكنك إلا أن تتوقف أمام مجموعة الأصوات الشعرية الخارجة من واقعها وعن واقعها، داخلة في أقاليم غير مطروقة، ومن هذه الأصوات الشاعر سماء عيسى، عروة الشعراء الشباب في الساحة العمانية وحامل لواء الشعر المغاير والمختلف في المفردة والجملة والرؤية إلى العالم وذات الإنسان، يرسم خارطته الشعرية محاولاً إضاءة الطريق لمن يأتي بعده، إنه حكيم القصيدة العمانية بامتياز.
سماء عيسى الصديق الأقرب إلى ذاتي على المستويين الشعري والإنساني، فما أن أحط ركابي في مسقط اتصل به، أراه حاضراً لاستقبالي في كل الظروف والأوقات، ويأخذني معه في جولات، أتعرف فيها على عمان الأرض والإنسان. وما أن أقرأ إحدى تجاربه الجديدة والطازجة حتى أراه يحرضني لمواصلة الحلم بكتابة أخرى، أكثر توغلاً في المخفي وغير المرئي والمغاير للمألوف، هو أحد المحرضين بامتياز على سلوك الأجمل والأروع والأكثر إشراقاً.
قال عنه أحد النقاد «تعتبر تجربة سماء عيسى الشعرية أولى علامات الصدام المبكر مع القصيدة التقليدية أو حتى قصيدة التفعيلة، فقد بدأها منذ أواسط السبعينات في القاهرة عندما كان طالباً هناك، وتأتي تجربته على المستوى الزمني مبكرة مقارنة بأقرانه كتاب قصيدة النثر في عمان».
ووصفه مبارك العامري «سماء عيسى مسكون بكيمياء القصيدة أينما يممت وجهك درب التبانة.. تتقلب الأيام وتربد لكن سماءك تظل مرصعة بأنجم الخلق والمحبة».
شيء من الكتابة
ولد الشاعر سماء عيسى في مدينة مسقط عام 1954، واسمه الحقيقي عيسى بن حمد الطائي، تلقى تعليمه في عمان ثم أكمله في دولة البحرين وتخرج من كلية التجارة بالقاهرة سنة 1974.
له العديد من المجموعات الشعرية والأعمال السينمائية، حيث أصدر «ماء لجسد الخرافة» 1985، «نذير بفجيعة ما» 1987، «مناحة على أرواح عابدات» 1990، «منفى سلالات الليل»، «دم العاشق» 1999، «درب التبانة» 2001، ثم ديوانه «غيوم»، «ولقد نظرتك هالة من نور».
يرفض سماء عيسى التحدث عن نفسه وتجربته بتواضع جم، ومحاولاتنا لإجراء حوار شعري له باءت بالتأجيل المستمر لفرط خجله وتواضعه من الحديث عن نفسه.
طائر الفينيق
يقول خميس بن راشد العدوي عن علاقته بسماء عيسى «التصور الذي رسمه ذهني عن الأستاذ سماء عيسى لا أدري أدقيق هو أم لا؟ بيد أن هذه الحيرة لها ما يبررها أمام التنوع الثري الذي يكتنزه هذا الكائن السماوي، فكلما رأيت سماء عيسى تبدى لي طائراً فينقياً يمخر سماء العولمة، اخترق عوالم المعقول واللامعقول ليحلق في سمواتنا المنكمشة على بعضها، بما يجعلنا غير قادرين بسهولة على التمييز بين هذه العوالم، وليضم تحت أجنحته المهيبة ذوات العدد المتزايد مثنى وثلاث ورباع، ما حفره بمخالبه الصلبة والناعمة في أرض الحقائق والأساطير على حد سواء، ولينقل إرث مالك بن فهم ووقائع الأود وأساطيرهم إلى دنيا اليوم التي تموج فيها أطياف لانهائية من فوتونات الطاقة وحزمها المعرفية التي تضخ كل نانو ثانية في الفضاء السوبراني.
شاعر، أديب، سارد، باحث، سينمائي، ممثل، مخرج، وثائقي، كاتب، مفكر، متذوق، ناقد، منطقي، خرافي، سريالي، واقعي، صوفي، متفتق، يصيبك هذا الطائر بالدهشة وهو ينطق بكل هذه الألسنة، ليرتفع بخيالك إلى تعدد رؤوس الطائر التي يحوي كل منها لساناً ينطق بفن ترغب أن تحمل أناملك على عزف أغنيته».
سماء والحفر الإيكولوجي
يقول فيكتور بوستنيكوف في مقال نشره موقع «معابر» الإلكتروني بعنوان «ما الشعر الإيكولوجي؟» وترجمه معين رومية «الشعرُ الإيكولوجي أحسن ما يمكن وصفُه هو أنه محاولة حدسية لتناغم المرء مع العالم، «كلام مع الله» يتم عبر الطبيعة، وعبر عنه الشعر والأدب والرسم والفلسفة والموسيقى والعديد من الوسائط والتقنيات الروحية الأخرى، التي تعين الأفراد على النمو الروحي والتغلب على ابتذال الحياة اليومية.
ويضيف بوستنيكوف «كي أكون أدق، أقول إن الله هو من يكلمنا من خلال الطبيعة، وفي مثل تلك اللحظات، عندما ندرك وجوده، نحاول أن نستجيب لذلك بالتعبير عن مشاعرنا نحوه بواسطة الشعر، وتتخطى مثل هذه الاستجابة فوارقنا الشخصية والثقافية، وتبلغ عن نفسها بلغة عالمية، لهذا السبب نتفهم الأعمال الشعرية لسادة الماضي العظماء الذين أبدعوا في ثقافات متنوعة، ونحبها، ونصغي إليها كما لو أنها تخاطبنا شخصياً، وآنذاك نسمع صوت أكابر الشعراء قاطبة».
تجربة «الجبل البعيد»
في ديوانه الجديد «الجبل البعيد» الصادر عن دار الانتشار العربي في بيروت، يواصل سماء الحفر في اللغة والواقع والأسطورة والمخيلة الإنسانية، يتماهى مع الوجود الإنساني في المادة المحيطة به وما ينتابه من مشاعر تستشعرها تتحرك داخله، قاذفة به في أتون تجربة لا يعرف مداها.
ويقول في إحدى القصائد
«كنت على المصطبة
انتظرك
وتركت المصطبة
ورحلت
خوفاً من شروق
جمالك الإلهي
لكنني
تركت قلبي على المصطبة
قلبي».
«الجبل البعيد» عبارة عن قصيدتين طويلتين متداخلتين «سمهرم» و»في عشق إله القمر سين وابنته المعبودة إنانا».
وفي إشارته لسمهرم يقول إنها منطقة استيطان بشري مهمة في فترة ما قبل الميلاد، نشأت عليها في جنوب عمان حضارة أساسها الاقتصادي تجارة اللبان، وارتبطت عبرها بعلاقات تاريخية مع الممالك القديمة في مأرب والبتراء والرافدين ومصر والأندوس والصين.
أما عن إله القمر سين فيقول «سين هو الإله المعبود في حضارة سمهرم وابنته المعبودة إنانا ، آثار المعابد التي تشكل ديانة حضارة سمهرم، مازالت باقية في الموقع الأثري لمدينة سمهرم حتى الآن».
يقول الشاعر
«كنت أسير تائها
لا أرى الفرق
بين كومة تراب
في الأودية
وبين قبر محارب
ينام
تحت شجرة ظمأى»
إن حفر الشاعر فيما يراه، يعيده إلى إسلافه الشعراء العرب الموجوعين وهم يرون الإطلال التي أصبحت دارسة، بعد أن فقدت الروح البشرية التي تعطي للمكان معناه الإسمي.
«على إطلالك وقفت وبكيت
ناديت الريح لتحملني
يرحل بي فرس العشق
أفيق أفتح عيني
على العدم».
تجربة سماء عيسى الشعرية تستحق القراءة على جميع المستويات النقدية، الروي والمخيلة والمفردة وتشكيلات الجملة الشعرية والرؤيا والحدس، فمن خلال هذه التجربة ربما نصل إلى قراءات أكثر قدرة على إعادة مفهومنا للشعر العماني بصورة خاصة وللشعر العربي بصورة عامة.