كتب ـ أمين صالح:
الكاتب والمخرج كوينتن تارانتينو لفت بأفلامه الأولى الناجحة جماهيرياً، أنظار النقاد الذين امتدحوا أسلوبه المختلف عن بقية أقرانه المخرجين.
أسلوب حيوي جريء مغامر ميزت أعماله مثل Reservoir Dogs و Pulp Fiction، الحائز على جائزة مهرجان كان، ورغم من تأرجح أعماله التالية بين الجودة والعادية، بين الحس الابتكاري والاعتيادي المألوف، إلا أنه لايزال يعد من ضمن السينمائيين الاستثنائيين، ممن يثيرون الجدل والخلاف والانقسام مع كل فيلم جديد يقدمه.
لدى تارانتينو قدرة عالية وبراعة فائقة في التلاعب بالجمهور، عبر خلق تجارب سينمائية يحشد فيها عناصر متناقضة ومتضاربة على صعيد الشكل والمحتوى، من خلالها يطرح أسئلة شائكة عن العنف بمختلف أشكاله ودوافعه وتبريراته، عن الجنس بمختلف مظاهره ومحركاته وتعقيداته، وعن التمييز العرقي في مجتمع متعدد الأجناس والانتماءات والولاءات.
في تقديمه لهذه العناصر وغيرها، ينحاز تارانتينو إلى إثارة مشاعر جمهوره وليس تحريك أذهانهم، المتفرج يلهث مع صوره، ولا تتاح له الفرصة كي يتأملها وهي تتتابع أمامه.
ثمة مظهر آخر ملفت في سينما تارانتينو، إذ نلاحظ ولعه بالتلاعب بأفلام النوع السينمائي البوليسي، الإثاري، الويسترن، الحربي، كونغ فو، إنه يستغل النوع genre كإطار عام يحتوي بداخله ما يريد عرضه وتوصيله، وهذا الإطار لا يظل كما هو بل يتعرض إلى التعديل والإضافة والتجميل، وفي الأخير، لا نستطيع أن ننسب الفيلم إلى النوع بل إلى عالمه هو، ففيلم مثل «أوغاد مغمورون» 2009 لا يمكن اعتباره فيلماً حربياً، وKill Bill بجزئيه 2003 و2004 لا يمكن اعتباره من أفلام كونغ فو، وفيلم «جانغو طليقاً» لا يمكن اعتباره ويسترن.
في أفلام تارانتينو لا يمكن التنبؤ بشيء، كل شيء قابل للحدوث، فيها يمزج الواقعي والخيالي، التوثيقي والمحاكاة، الدعابة والقسوة.
في أعماله نجد العديد من المرجعيات والإحالات إلى أفلام كثيرة في تاريخ السينما، السينما الأمريكية بالذات، التي نالت إعجابه الشديد، وتأثر بها، وهو يجد متعة بالغة في عشقه اللامحدود لتلك الأفلام ولتلك النوعيات، ومحاولة تقاسم هذا الحب أو الولع مع الجمهور.
من خلال آخر أعماله فيلمه السابع كمخرج «جانغو طليقاً» 2012 يوجه كوينتن تارانتينو تحية إلى نوعية أفلام الويسترن «الغرب الأمريكي أو الكاوبوي»، التي ظلت شعبية ورائجة منذ بدايات السينما وحتى أواخر الستينات، حيث راح بريقها يخبو ولم تعد مطروقة إلا في أفلام قليلة تنتج بين حين وآخر، دون أن تتمكن من استعادة مجدها السابق.
التحية موجهة بشكل خاص إلى الويسترن الإيطالي «الذي سمي أيضاً السباجيتي للتمييز بينه وبين الأمريكي الأصلي»، من خلال استعارة الاسم «جانغو» من فيلم حققه المخرج الإيطالي سرجيو كوربوشي عام 1966، واستخدام الثيمة الموسيقية الأساسية لذاك الفيلم، وتوظيف موسيقى إنيو موريكوني، وإشراك الممثل الإيطالي المعروف فرانكو نيرو في دور جانغو الأصلي، في دور صغير هنا وفي مشهد واحد.
هنا تارانتينو يستلهم الويسترن الإيطالي، ويقترب في بنائه من ذلك النوع، لكن دون أن يحاكي الأسلوب والموضوع.
ثمة ملاحظة جديرة بالإشارة هنا، فرغم تمرد تارانتينو على بعض القوانين أو القواعد السينمائية، ومغامراته السينمائية، وانحيازه إلى التجديد والخروج عن المألوف، وتلاعبه بالسرد عن طريق الانتقالات الفجائية ومن خلال المونتاج، إلا أنه لا يميل إلى استخدام المؤثرات الخاصة، والخاصيات الرقمية في تنفيذ لقطاته، أو الشاشة الثلاثية الأبعاد 3D، وغيرها من التقنيات الحديثة، بل يميل، حتى الآن، إلى الطابع الكلاسيكي في التنفيذ.
في أفلامه عادةً نجد أن الحدث يتعرض لتحولات في المنظور، حسب رؤية كل شخصية لمجريات الحدث أو القصة، السرد المتسلسل زمنياً «كرونولوجياً» يخضع للقطــــع أو الانتقــــال بحيث يتعدد السرد أو يتحول إلى فصول مستقلة عندما تدخل شخصيـــــات أخـــــرى وأحـــــداث مختلفـــة، لكنهــا متصلة عضوياً أو جوهرياً.
خـــلال 165 دقيقــــة، مــــدة عــرض فيلــــم «جانغــــــــــو طليقاً»، يتنـــــــاول كوينتن تارانتينو، من بين أشياء أخرى، موضوع العنصرية والعبودية، السينما الأمريكية لم تتناول مثل هذه القضايا إلا عبر أفلام قليلة، وبطريقة مخففة، أو ميلودرامية، أو للتخفيف من عقدة الذنب الجماعية، لكن غالباً ما كانت تفتقر إلى المصداقية.
هذا الفيلم ليس عن العبودية بشكل حصري، وإن كانت العبودية من العناصر الرئيسة في القصة، إنه يبرز حالات الرعب والإذلال الناجمة من العبودية في عالم عنصري عنيف.
كما الحال مع عدد من أفلام تارانتينو السابقة، لا يمكن التنبؤ بمجريات العمل ووجهته، أو بالانعطافات والالتواءات الدرامية والأسلوبية، أو بما يمكن أن يفعله مع مادته وشخصياته.
«جانغو» فيلم يجمع بين العنف والدعابة والميلودراما من خلال مادة ثرية تحتوي على عناصر المطاردات والانتقام، وقصة الحب التراجيدية، والعبودية، وهو ـ قبل كل شيء ـ فيلم ممتع ومسلٍ.
أحداث فيلم «جانغو طليقاً» تدور عام 1858، أي قبل عامين من اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية، الفيلم يفتتح بلقطات لمجموعة من العبيد المقيدين، بينهم جانغو «جيمي فوكس»، وهم يسيرون ليلاً في أرض جرداء مغطاة بالثلوج، في مناخ شديد البرودة، خلف اثنين من تجار العبيد ينويان بيعهم.
يظهر أمامهم مسافر ألماني، يزعم أنه طبيب أسنان، ويدعى شولتز «كريستوف فالتز»، إنه يبحث عن عبد معين اسمه جانغو ويرغب في شرائه.
التاجران يرفضان فيضطر إلى قتلهما وأخذ جانغو معه، إن شولتز يعرف نفسه بشكل صريح ومباشر «أنا أقتل الناس وأبيع جثثهم»، ليتضح أنه صائد مكافآت، أي يقتل الخارجين عن القانون ويسلمهم إلى ممثلي القانون مقابل مكافأة مجزية، وهو الآن يبحث عن ثلاثة أخوة مطلوبين لجرائم عديدة ارتكبوها، لكنه لا يعرفهم ولا يستطيع أن يميزهم، جانغو وحده من يعرفهم جيداً، وقادر أن يعين هويتهم.