يصادف اليوم 25 مايو الحالي الذكرى الـ32 لإنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ويأتي الاحتفال هذا العام في ظل ظروف تؤكد أن قرار إنشاء المجلس مطلع ثمانينات القرن الماضي كان له أبلغ الأثر في حماية المنطقة وضمان أمن شعوبها، وأن دعم وتعزيز قوة التحالف بين الدول الخليجية الست وبعضها هو قرار مصيري سيظل عنوانا لأمن الإقليم ككل. والمتتبع لمسيرة تطور المجلس طوال العقود الثلاثة السابقة يستطيع أن يخلص في النهاية إلى ثلاثة حقائق رئيسة ميزت العمل الوحدوي الخليجي الذي لم يكن أبداً حبراً على ورق، ولم يكن مجرد اجتماعات بروتوكولية يحضرها هذا الطرف أو ذاك، وإنما تجسيد حقيقي لطموحات قادة الدول الست في التنسيق والتعاون المشترك وتطلعات شعوبها في التوحد. وتتمثل هذه الحقائق في:الأولى: أن التعاون الخليجي ـ الخليجي لم يكن خياراً يمكن الاستغناء عنه والبحث عن بديل آخر له بقدر ما كان مصيراً محتماً على الدول الست، التي سعت بكل ما أوتيت من قوة لتجسيد هذا المصير الواحد على أرض الواقع بالرغم من العقبات والتحديات التي واجهتها، ولم يكن لها ذنب فيها سوى أنها تقع وسط منطقة تعد من أكثر مناطق العالم سخونة وتوتراً بفعل العديد من المتغيرات.ولعل برهان ذلك يتمثل في تلك الاستجابة العالية التي أبداها المجلس ودوله للأزمات التي حلت بالمنطقة، وهي أزمات هيكلية معروفة قوضت دول وأقامت نظم، والتعاطي مع التداعيات التي أفرزتها بروية وحنكة، وهو ما مكن دول التعاون الست من البقاء والاستمرار والصمود في وجه العواصف، والحفاظ على وتيرة، ليس فقط ثابتة، وإنما متطورة، من التفاعلات التعاونية التي يشهد لها الجميع بالإيجابية والوعد بالأمل. وليس من قبيل المبالغة القول إنه لولا هذا الكيان الذي شرع في بنائه قادة وزعماء دول الخليج الأول منذ ما قبل العام 1981، وواصل خير خلف لخير سلف استكمال مقوماته حتى يومنا هذا، أنه لولا ذلك الكيان التنظيمي الذي أطر جهود الدول الست ووجهها إلى المسار الطبيعي لها، لولا ذلك ما كان لمجلس التعاون هذا الثقل الذي يتمتع به في المحيطين الإقليمي والعالمي، ولا تلك المكانة التي يحظى بها في نفوس أبناء دول المنطقة باعتباره السياج الحامي لمقومات قوتهم وموارد نفوذهم.وهنا قد يكون مهما التأكيد على أن دول التعاون تعد الآن سابع أكبر قوة اقتصادية في العالم، وتتوقع وكالة الطاقة زيادة إنتاج المنطقة من النفط، عصب الاقتصاد العالمي، من 25 إلى 35 مليون برميل يومياً، وترتبط بعلاقات إيجابية قوية مع أقطاب النظام العالمي سواء في الشرق أو الغرب، ناهيك بالطبع عن نجاح علاقاته البينية وتطويرها في مختلف مجالات التعاون، فضلاً عن مبادراته العديدة للتكيف مع الأوضاع التي طرأت ولا زالت تطرأ بين الحين والآخر على المنطقة، أمنياً وسياسياً وعسكرياً.خصوصية مسيرة التعاون الثانية: خصوصية مسيرة التعاون الخليجية، والتي من المؤكد تتفق مع كثير من مشروعات التعاون الإقليمي المعروفة سواء في الشرق أو الغرب في الهدف الذي تبتغيه، وهو تحقيق أكبر قدر ممكن من التنسيق والتعاون المشترك وصولاً إلى درجة من درجات التكامل. لكن تجربة مجلس التعاون تختلف عن غيرها في طبيعة التطور التعاوني ذاته ومراحله التي مر بها، علاوة على الوقت الذي استغرقه لتحقيق ذلك، وهو وإن كان طويلا نسبيا قياسا بتحارب وحدوية أخرى، لكن كثيراً من الأدبيات التي تتناول موضوع «الإقليمية الجديدة» ترى هذا الطول النسبي للوقت دليل صحة وعافية وميزة لها ولا ينتقص منها باعتباره برهانا على التفكير المعمق في أي خطوة تعاونية قبل الإقدام عليها. وفي هذا الشأن وجد كثير من المعلقين أن هناك خصائص محددة ميزت مسيرة التعاون الخليجية، فهي وإن كانت بدأت منذ ثلاثة عقود فقط بالمقارنة بتجارب أخرى انطلقت منذ خمسينيات القرن الماضي كتجربة الاتحاد الأوروبي، واستندت إلى ميراث من الخبرات والتجارب والعناصر والقيم الحضارية المشتركة، فإنها وحتى الآن لم تضطر أو حتى تلجأ إلى إجراء متسرع دون سابق دراسة وتقييم، وعملت على ألا تقفز على متطلبات التعاون الضرورية أو تحرق مراحله، وذلك وفق خطط متدرجة ومدروسة جيداً، وهي في مسارها ذاك لم تتبع تجارب وحدوية أو مشروعات إقليمية أخرى لم تستمر أكثر من سنوات معدودة، وانهارت مع أول عاصفة واجهتها. كما أن دول المجلس لم تلج أي مرحلة من مراحل التعاون دون التنسيق الكامل بشأنها، بل يلاحظ أن بعض مشروعات التكامل العليا من قبيل الوحدة الاقتصادية الكاملة والاتحاد الفيدرالي التي تم الإعلان عنها قبل فترة أُرجئت لمزيد من الدراسة والتدقيق، وذلك حتى لا يعوق أي تباين في وجهات النظر حولها الوصول للهدف المنشود، ومن ثم ضمان نجاح الخطط الموضوعة والمطلوب تحقيقها مسبقا، وحتى يتم مراعاة ظروف الدول الست كلها قبل الشروع في أمر لا تملك أي منها مقوماته، وهو ما يكفل بالتالي دعمها وتوافر البنية اللوجيستية اللازمة لمشروعات التعاون وبما يسهم في تعزيز خطاها مستقبلاً.الثالثة: حجم التحديات والعقبات التي واجهت دول المجلس، وهي عديدة ومعقدة كما ذُكر سلفا، والتي يعتقد أنها لو مرت بمشروعات إقليمية ناجحة أخرى في آسيا وأوروبا لكانت سببا في إخفاقها بل وانهيارها مثلما حدث في مشروعات تعاونية عربية أخرى لم تستطع البقاء ولا الصمود مع أول أزمة تعرضت لها، هذا في حين أن دول التعاون الست تصدت لجملة من الأزمات الهيكلية بطريقة ميزت إدارتها لها طيلة تاريخها، وخلت جميع هذه الأزمات ـ تقريباً ـ من أي تداعيات لا يمكن السيطرة عليها.وهناك عدة دلالات تعكس هذا المعنى، فمن ناحية، تمكنت دول التعاون من اجتياز حدة أربعة حروب على الأقل عاشتها المنطقة، واستطاعت التعامل مع أطماع قوى وفاعلين وتطلعات أطراف انهارت أو لا زالت لها بقاياها وامتداداتها في الإقليم. وها هي حتى الآن تواصل تحقيق النجاح تلو الآخر في التعاطي مع أزمات المنطقة ككل، كما لا زالت متمسكة بدورية انعقاد اجتماعاتها ومشاوراتها في شتى مجالات التعاون، ومن ذلك أن الرياض ستستضيف اللقاء التشاوري للقادة الخليجيين والذي يواكب اللقاء الدوري للمجلس في نهاية كل عام، ويستهدف متابعة مسيرة العمل الخليجي المشترك في مختلف جوانبه.أطر يمكن تطويرهاومن ناحية ثانية، ينبغي النظر إلى حجم منجز دول المجلس بالمقارنة بحجم التحدي الذي عاشته والوقت الذي استغرق في تحقيقه، حيث يُشار إلى سلسلة الاتفاقيات المعقودة بين الدول الست وتشمل كافة مجالات التعاون، الأمنية منها والدفاعية والاقتصادية والتنقل والاستثمار وغير ذلك الكثير، وتمثل في واقع الأمر أطراً قانونية وتنظيمية يمكن البناء عليها وتطويرها، خصوصاً وأنه لم يمر على إبرامها أكثر من سنوات معدودة كانت ضرورية لفهم ظروف البيئة المناسبة للعمل وتدارك أخطاء الممارسة.ومن ناحية أخيرة، فإن المجلس الخليجي، ورغم أهمية ذلك، فإنه لم يعد مجرد كيان تنظيمي أو قانوني فحسب يسهم في تأطير جهود التعاون المشترك، وإنما بات أشبه بحائط صد في مواجهة كيانات كبرى لا يعترف العالم المعاصر إلا بها وينبذ تلك الدول الصغيرة التي يتم الاستفراد بها والتعامل معها فرادى، ما يستلزم العمل من أجل تطوير هذا البيت المشترك واعتباره الحاضن الطبيعي لأحلام الوحدة والتكامل الخليجية ـ الخليجية.
970x90
970x90