كتب ـ أمين صالح:الأب أحياناً يلوم الأم لأنها تفرط في تدليل الأولاد، ويؤدي هذا إلى إفسادهم وتخريب علاقتهم بالواقع والمحيط حسب رأيه، وبالتالي ينبغي أن تكون حازمة في تربيتهم. في مشهد المواجهة الحادة وقت تناول الطعام في فيلم شجرة الحياة، يتهم الأب الأم بتحريض الأبناء عليه وحثهم على عدم احترامه، أحياناً نشعر أن الأب يدرك أن طريقته في التربية، وفي التعامل مع أبنائه، ليست سليمة وأنها تبعدهم عنه، لكنه لا يستطيع أن يغير سلوكه لأنه تربى عليه، أو هو متأصل فيه منذ وقت مبكر.صرامة الأب وخشونته وفظاظته أحياناً، وإصراره على انتزاع الحب والاحترام من أبنائه بطريقة غير عفوية، حتى لو عن طريق الإكراه أو الإلزام أو التملق، كل هذه السلوكيات تسبب الاختناق لهم، وتجعل أذهان أولاده خصوصاً جاك، مليئة بالأسئلة والشكوك والصلوات المبهمة والتساؤلات بشأن الرب وعلاقته بالإنسان والكون.التساؤلات بشأن هذه العلاقة المحيرة، الملغزة، تُطرح باستمرار من خلال أصوات داخلية هامسة تنتسب لمختلف الشخصيات.. هل الله موجود هناك؟ أين يعيش؟ هل يراقبنا؟ هل تراقبني؟ أنت تركت ولداً يموت.. لم يتعين علي أن أكون طيباً في حين أنك لا تُظهر أي طيبة؟ يا إلهي لماذا؟ أين أنت؟ أريد أن أعرف ما تكونه، أريد أن أرى ما تراه، لم لا يستجيب لدعائنا؟ لم يفضل أن يؤذينا على أن يساعدنا؟هكذا تطرح البراءة ـ كلما اعتراها اليأس أو العجز أو الحزن - وتذكي اللغز، الفيلم يريد أن يظهر أن كل أوجه الحياة هي عرضة لصراع دائم لا ينتهي، وليس مقدراً له أن يحسم.الأولاد ينتقلون ـ عبر صور ذا كثافة شديدة هي نتاج ذاكرة متشظية - من مرحلة الطفولة البهيجة، حيث العالم مرئي ومسموع ومحسوس من زاوية طفولية وبشفافية عالية، إلى مرحلة المراهقة المحفوفة بمختلف الإغواءات وأشكال الإذلال والتشوش، إضافة إلى اختبار مشاعر البهجة والغيرة والغضب الملتوي والخوف الوجودي والتشوش الجنسي، الرفقة مع أولاد الحي، اللعب واللهو، الكشف عن العنف الكامن لكن بمظهره البسيط غير الخطير «القسوة الموجهة ضد ضفدعة، رشق زجاج بيت متهدم بالحصى»، اكتشاف الميول الجنسية الأولى «جاك المراهق يتسلل خلسةً إلى أحد بيوت الجيران ويسرق لباساً نسائياً داخلياً، انجذابه العاطفي إلى زميلة الدراسة»، اكتشاف حضور الموت «المتمثل في غرق صبي أمام مرأى الجميع وإخفاق الكبار في إنقاذه» في عالم لم تعد الحياة فيه محصنة ومتينة ويصعب اختراقها كما كان الصغار يعتقدون، بل هي هشة وسهلة الاختراق.ونشهد بوادر التمرد عند جاك، خصوصاً ضد سلطة الأب.. حتى إنه يصرخ في أبيه في يأس «إنه بيتك.. تستطيع أن تطردني منه وقتما تشاء». لكن كلما كبر جاك وازداد نضوجاً، أدرك أن والده ليس مقدساً ولا وحشاً، بل مجرد إنسان عادي لديه قناعاته، لديه عيوبه ونقاط ضعفه، لكن أيضاً لديه طاقة هائلة على الحب.المشهد الختامي، الذي يدور على شاطئ مهجور، هو صامت، تخيلي، شبيه بالحلم، مشهد مدهش وأخاذ، فيه كل شخصيات الفيلم تتلاقى وتتحد من جديد، تتصافح وتتعانق وتتبادل القبل والابتسام ونظرات المودة، تتمشى، تتنزه، أصوات داخلية هامسة، الملائكة تحيط بالأم التي تهزهز ضوءاً متوهجاً بين يديها، ثم في إيماءة قبول بالفقد الذي عانت منه بعمق، تودع ابنها المفقود إلى الأبدية، تحت رعاية الرب، عذوبة بالغة، محبة طاغية، غبطة لا حد لها.وتيرنس ماليك يعرض هذه الحالات بحساسية ورهافة، دون نزوع ميلودرامي، رابطاً سلسلة من اللحظات الشخصية مع لقطات لجوانب من الطبيعة.العمل ذاتي بعمق، البعد المتصل بالسيرة الذاتية لتيرنس ماليك نفسه واضح وبارز في أكثر من مظهر.. أحداث الفيلم تدور في الفترة والمواقع التي نشأ فيها ماليك «تكساس في منتصف الخمسينات».. أبوه باحث جيولوجي في شركة نفط، أمه أيرلندية، كان له شقيقان أحدهما «الأصغر سناً عازف غيتار» انتحر شاباً في أواخر الستينات.. «وتشير بعض المصادر إلى أن هذا الشقيق كان مقيماً في إسبانيا».بالإضافة إلى الموسيقى المؤلفة للفيلم، والتي هي من إبداع ألكسندر ديسبلات، فإننا نسمع أجزاء من مقطوعات باخ، برليوز، براهمز، ماهلر، موسورجسكي وآخرين.في حديث للناقد كينت جونز عن «شجرة الحياة»، يقول «الفيلم لا يتحرك إلى الأمام بل ينبض، مثل كائن حي عظيم، يبدأ الفيلم وينتهي بالنقطة نفسها.. كرة ذات طاقة أساسية في الظلمة، متأهبة لتوليد تجليات أكثر للرب، بخلاف المخرج ستان براكهيج، تيرنس ماليك لا يقوم بمغامرة داخ ل الكون متوارياً ضمن ثنايا الإدراك الحسي، لكن مثل فرمير، وتيرنر، وجودار.. كلاهما (ماليك وبراكهيج) يذكراننا، كادراً بعد كادر، أن كل ما يوجد هناك ليس سوى الضوء».إنه عمل فذ، استثنائي، جريء، مغامر، قوي، متألق جمالياً، فاتن بصرياً، آسر في معالجته لمضمونه، عمل مدهش في مداه وعمقه، يقف بجدارة في مصاف التحف السينمائية.عمل تأملي عميق، يعني لكل شخص شيئاً مختلفاً، وهو فيلم لا يحققه إلا شاعر أو حالم.