صدر مؤخراً عن مؤسسة الانتشار العربي ببيروت مارس 2014، كتابان مشتركان لأستاذ النقد الأدبي الحديث والسرديات المساعد بقسم اللغة العربية بجامعة البحرين الناقدة والأكاديمية البحرينية د.ضياء الكعبي، ولأستاذ النقد والنظرية المشارك بقسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود بالرياض الناقد السعودي د.معجب العدواني.
يحمل الكتاب الأول عنوان «الخطاب السجالي في الثقافة العربية، مقاربات تأويلية». أما الكتاب الآخر فيحمل اسم»السرديات الشعبية العربية، التمثيلات الثقافية والتأويل». والكتابان موجودان الآن في معرض الرياض الدولي للكتاب.
يتناول كتاب «الخطاب السجالي في الثقافة العربية، مقاربات تأويلية» محاور هي: السجال مدخل نظري، بين خطابي التقليد والحداثة في الأدب السعودي، وآليات الخطاب السجالي في النقد العربي الحديث، النقد الثقافي في تطبيقاته العربية أنموذجاً، التأويل والتأويل المضاد في خطاب المرأة: استراتيجيات الخطاب السجالي لكتابي «السفور والحجاب» و«الفتاة والشيوخ» لنظيرة زين الدين «1908_1977»، الاختلاف المقنع: سجال الجرجاني مع القاضي عبدالجبار في كتاب «دلائل الإعجاز». وجاء في مقدمة الناقدين للكتاب ما يأتي: «يمثل الخطاب السجالــي (Polemic Discourse) تاريخاً مصطلحياً ممتداً منذ البلاغة اليونانية والرومانية القديمة مروراً بالبلاغة العربية الإسلامية في العصور الوسيطة إلى البلاغة الجديدة مع الحداثة الأوروبية (الغربية) وموجات ما بعد الحداثة (Postmodernism) التي كسرت المركزية الغربية، وأضحت الهوامش وما يتصل بها مركزيات!
للخطاب السجالي أهميته الكبرى نظراً لتعالقه مع الثقافات والحضارات الإنسانية بتنوعاتها واختلافاتها، ولذا فهو يشتغل على «بلاغة الاختلاف ويحتفي بها. ويؤشر وجوده وكثافته في بيئة ما على فاعلية هذه البيئة في توفرها على هذا البعد التداولي الخطير والعميق في آنٍ واحد. لقد أنتجت الحضارة العربية الإسلامية بيئات خصبة للحجاج والسجال، ونخص بالذكر العصر العباسي الذي مكنته هجنته الثقافية والعرقية من بروز عشرات الفرق المذهبية والكلامية ناهيك عن احتواء الإمبراطورية العباسية آنذاك على عشرات الأديان التي تجاورت وتعايشت ضمن منظومة «دار الإسلام». يشهد على ذلك كتب «الملل والنحل» والمناظرات الكلامية التي عجت بها أخبار مؤرخي ذلك العصر كالطبري والبغدادي والمسعودي وسواهم. وقد ازدهر الخطاب السجالي في هذا العصر نظراً لخصوبته ولأجواء الحرية الفكرية والتسامح الديني الذي ميز بعض فتراته «فقد ألف يحيى بن عدي النصراني اليعقوبي علاوة على ترجماته ومؤلفاته في المنطق والعلوم والأخلاق، عدة مقالات ورسائل، وكتب في اللاهوت المسيحي دافع فيها عن العقيدة المسيحية ضد انتقادات المتكلمين الإسلاميين أو ضد الفرق المسيحية الأخرى التي تخالف اليعقوبية فرقته!».
لقد برز الخطاب السجالي في العصور التي تلت العصر العباسي نظراً لتنوع الحضارة العربية الإسلامية كما بينا. أما في عصر الحداثة والنهضة العربية فقد كان للخطاب السجالي بروز كبير في سجالات الحداثة والتقليد التي طالت كل شيء في المجتمع العربي الحديث والمعاصر من السجالات السياسية والفكرية والثقافية. ولا غرابة في هذا البروز، فالسجالات تزدهر في عصور الحراكات النهضوية الكبرى متناولة مفاصل جوهرية وشائكة في المجتمعات التي تفرزها أفهام متباينة وعقول تتجاذبها مؤثرات كثيرة بين الحداثة والتقليد.
وقفنا في تفكيكنا للخطاب السجالي في الثقافة العربية على مفاصل سجالية في غاية الأهمية، فمن التراث العربي القديم كان سجال الجرجاني مع القاضي عبدالجبار في «كتاب دلائل الإعجاز». ومن سجالات النهضة العربية في مطلع القرن العشرين كان «خطاب المرأة: التأويل والتأويل المضاد: قراءة في استراتيجيات الخطاب السجالـــي لكتابـــي «السفـــور والحجـــاب» و«الفتاة والشيوخ» لنظيرة زين الدين (1908_1977)». ومن السجالات النقدية فـــي مرحلة الحداثة وما بعدها كانت «آليات السجال في خطاب التقليد والحداثة في الأدب السعودي» و«آليات الخطاب السجالي في النقد العربي الحديث: النقد الثقافي وتطبيقاته العربية أنموذجاً».
لقد أردنا أن يكون هذا الكتاب المشترك في تطبيقاته النقدية محركاً وحافزاً للكتابة العربية النقدية في مجال الخطاب السجالي، الذي لاتزال الكتابة عنه عربياً في حكم القليل النادر مقارنة بخطابات تداولية أخرى لعل أبرزها الخطاب الحجاجي الذي حظي بنصيب الأسد من الدراسات العربية مؤخراً، ونريد أن نحيي من خلال هذا الكتاب ندوة «الخطاب السجالي» التي انعقدت بجامعــة «سوسة» التونسية سنة 2009، وهي الندوة التي شاركت فيها جهود علمية رصينة وفاعلة دولية وعربية وأثمرت سجالات علمية في غاية الرصانة والجدية.
السرديات الشعبية العربية
أمـــا كتاب «السرديات الشعبية العربيــة، التمثيلات الثقافية والتأويل»، فقد اشتمل على مقاربات تأويلية ثقافية هي «جدلية الشعبي والنخبوي، التمثيلات النقدية والثقافيـــة للسرديــات الشعبية العربيـــة» و«أسئلة الحكاية الشعبية» و«الحكاية الشعبية في منطقة شبه الجزيرة العربية والخليج العربي» و«الحكاية الشعبية في عمان: بنيات ودلالات». وجاء في مقدمة الناقدين للكتاب التصدير الآتي: تشكل السرديات الشعبية العربية مفصلاً رئيساً للذات العربية وللعقل العربي بمختلف تمثلاته وتجلياته قديماً وحديثاً، إلا أن المفارقة الكبرى تكمن في تغييب هذا المتخيل الشعبي الضارب بجذوره في أعماق سحيقة في أرض الجزيرة العربية وبلاد الشرق الأدنى ومصر وبلاد الغرب الإسلامي بما احتوته جميعها من موروث سردي عريق انبثق من الأساطير والتعاويذ الدينية والطقوس الجنائزية والأمثال وسجع الكهان وغيرها. ورغم وجود ما أسماه فاروق خورشيد (المصفاة الإسلامية) في عصر التدوين الأكبر أوائل العصر العباسي، إلا أن القص العجائبي لم يمتثل للرقابة الدينية، وبدأ ينسرب في الخبر التاريخي والخبر الأدبي وكتب الأسمار والحكايات متعالقاً مع الإسرائيليات، الأمر الذي شكل خطورة كبيرة للسلطتين السياسية والدينية مما حدا بالخليفة العباسي المعتضد بالله إلى أن يصدر أمراً بمنع جلوس القاص على الطرقات. كما امتلأت كتب الحسبة وكتب القصاص والمذكرين بالأوامر والنواهي، مثل كتاب (القصاص والمذكرين) لابن الجوزي وكتاب (الباعث على الخلاص من أحاديث القصاص) للحافظ العراقي، التي أرادت تأطير القص أو السرد لجعله مقتصراً فقط على القص الديني الوعظي دون سواه من أشكال المتخيل التي لا تتطابق مع السلطة النقلية الدينية. كما غيب الموروث البلاغي والنقدي العربي القديم السرد وركز فقط على منحاه اللغوي كما فعل مع «كليلة ودمنة» والمقامات.
لم يكن السرد الشعبي الذي ظهر أواخر العصر العباسي سرداً بريئاً يقصد منه الإمتاع والمؤانسة فقط، وإنما كان سرداً يحوي في باطنه أنساقاً ثقافية على درجة كبيرة من الخطورة، فالتمثيلات الثقافية للسير الشعبية العربية على سبيل المثال تشكل متخيلاً سردياً للتاريخ العربي الإسلامي يخالف التأريخ الرسمي له الذي نجده عند بعض كتاب الآداب السلطانية من الأدباء والفقهاء والمؤرخين. ولهذا استمرت السرديات الشعبية العربية في البقاء والازدهار رغم محاولات إقصائها وتغييبها، تشهد على ذلك دوائر طويلة متصلة من التداول الشفاهي ومن الرواج عند المتلقي العربي باختلاف طبقاته من المتلقي الخاص إلى المتلقي العامي. وفي العصر الحديث دخلت السرديات الشعبية العربية إلى مركز الاهتمام النقدي، وبدأت الاشتغالات المنهجية الجادة تعتني بها إلى جانب وجود حركات نشطة نسبياً في مختلف أنحاء الدول العربية بتوثيق الذاكرة الشعبية ومنها المرويات السردية.
أردنا في هذا الكتاب أن نقارب السرديات الشعبية العربية مقاربات ثقافية وتأويلية، وبالتالي فإن اشتغالاتنا تنصب في إطار السرديات الثقافية cultural narratives. وقد اقتصرنا في هذه المقاربات على نوعين سرديين شعبيين رئيسين هما: الحكاية الشعبية والسيرة الشعبية، وسبب وقوفنا عند هذين النوعين لأهميتهما المركزية في السرديات الشعبية بشكل عام. وأبحاث الكتاب تناولت (الحكاية الشعبية وسطوة المفاهيـــم النقديـــة) و(جدليـــة الشعبــــي والنخبوي، التمثيلات النقدية والثقافية للسرديات الشعبية) و(الحكاية الشعبية في منطقة شبه الجزيرة العربية والخليج العربي، مقاربة ثقافية تأويلية) و(الحكاية الشعبية في عمان بنيات ودلالات) و(أسئلة الحكاية الشعبية).
إن المــوروث الشعبي العربي بحاجة إلـــى جهود مؤسسية جادة تشتغل على جمعه وتدوينه من جهة وعلى قراءته نقدياً من جهة أخرى. ولذا نأمل أن يكون هناك وعي لدى الباحثين العرب من الأجيال الجديدة بأهمية المحافظة على هذا المورث الذي يعني أولاً وأخيراً حفاظنا على هويتنا العربية وعلى ثرائها الكامن في الاختلاف والتنوع.