كتب - عبدالرحمن صالح الدوسري:
احتفل العالم أمس الأول بذكرى مولد الفيلسوف والطبيب والفلكي الأندلسي ابن رشد، والذي يصادف مثل 14 أبريل من عام 1126م بقرطبة في إسبانيا.
ابن رشد هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد «1126م – 10 ديسمبر 1198م» ولد في قرطبة هو فيلسوف، وطبيب، وفقيه، وقاض، وفلكي، وفيزيائي، مسلم.
نشأ في أسرة من أكثر الأسر وجاهة في الأندلس والتي عرفت بالمذهب المالكي، حفظ موطأ مالك، وديوان المتنبي، ودرس الفقه على المذهب المالكي والعقيدة على المذهب الأشعري.
يعد ابن رشد من أهم فلاسفة الإسلام، دافع عن الفلسفة وصحح فكر علماء وفلاسفة سابقين له كابن سينا والفارابي في فهم بعض نظريات أفلاطون وأرسطو، قدمه ابن طفيل لأبي يعقوب خليفة الموحدين فعينه طبيباً له ثم قاضياً في قرطبة.
تولى ابن رشد منصب القضاء في أشبيلية، وأقبل على تفسير آثار أرسطو، تلبية لرغبة الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف، تعرض ابن رشد في آخر حياته لمحنة، حيث اتهمه علماء الأندلس والمعارضون له بالكفر والإلحاد ثم أبعده أبو يعقوب يوسف إلى مراكش وتوفي فيها «1198 م».
يرى ابن رشد ألا تعارض بين الدين والفلسفة، ولكن هناك بالتأكيد طرقاً أخرى يمكن من خلالها الوصول لنفس الحقيقة المنشودة، ويؤمن بسرمدية الكون ويقول بأن الروح منقسمة إلى قسمين اثنين: القسم الأول شخصي يتعلق بالشخص والقسم الثاني فيه من الإلهية ما فيه، وبما أن الروح الشخصية قابلة للفناء، فإن كل الناس على مستوى واحد يتقاسمون هذه الروح وروح إلهية مشابهة، ويدعي ابن رشد أن لديه نوعين من معرفة الحقيقة، الأول معرفة الحقيقة استناداً على الدين المعتمد على العقيدة وبالتالي لا يمكن إخضاعها للتمحيص والتدقيق والفهم الشامل، والمعرفة الثانية للحقيقة هي الفلسفة، والتي ذكر بأن عدداً من النخبويين الذين يحظون بملكات فكرية عالية توعدوا بحفظها وإجراء دراسات جديدة فلسفية.
ابن رشد هو أحد كبار الفلاسفة في الحضارة العربية الإسلامية. وقد ترك للإنسانية مآثر علمية جليلة استفادت منها بلاد الغرب التي تنعم الآن بحضارة راقية؛ إذ كان لابن رشد وغيره من علماء العرب والمسلمين فضل كبير في بناء قاعدة تلك الحضارة. فقد استمد الغرب الكثير من التراث العربي الإسلامي – ذلك التراث الذي مازال طلاب العلم الغربيون ينهلون منه في جامعاتهم وفي مجالات بحوثهم ودراساتهم. وقد بحث ابن رشد كثيراً في الفلسفة، ولكنه لم يهمل الحقول المعرفية الأخرى، فعكف على القراءة والكتابة؛ إذ يروى عنه أنه لم ينقطع عن القراءة والكتابة إلا في ليلتين: إحداهما كانت يوم وفاة والده، والثانية كانت ليلة زواجه! وقد ألف ابن رشد في الفيزياء والفلك والطب والفلسفة وغيرها. ولقد صدق المؤلف المعروف جورج سارتون عندما قال في كتابه المدخل إلى تاريخ العلوم:
إن ابن رشد كان من أكابر فلاسفة الإسلام. ولقد أثر على فلاسفة أوروبا بفلسفته أكثر من أرسطو نفسه. ودون ريب، فإن ابن رشد هو مؤسس الفكر الحر: فقد فتح أمام علماء أوروبا أبواب البحث والمناقشة على مصاريعها؛ لذا فإنه أخرجها من ظلمات التقييد إلى نور العقل والتفكير.
شهرته في الطب والفلسفة
ولقد طغى نشاط ابن رشد الفلسفي على شهرته المرموقة وثقافته في العلوم الأخرى، مثل الطب والفلك، وقد ذكر جورج سارتون في الكتاب نفسه: « إن شهرة ابن رشد في عالم الفلسفة كادت أن تحجب منجزاته في الطبيعيات، على أن ابن رشد كان يعتبر في الحقيقة من أكبر الأطباء في عصره، فقد ألف نحو عشرين كتاباً في الطب، بعضها تلخيصات لكتب جالينوس، وبعضها مصنفات ذاتية، وقد ترجم أكثرها إلى اللاتينية، وأشهرها كتاب الكليات في الطب، وهو موسوعة طبية في سبعة مجلدات، ترجمه إلى اللاتينية الطبيب بوناكوزا من جامعة بادوا في سنة 1255، وطبع مرات عديدة مضافاً إليه كتاب التيسيرلابن زهر.
وقد كان لابن رشد شهرة عظيمة بين الأوروبيين في مجالين أساسيين من المعرفة، هما الطب والفلسفة، ولكن لن ننسى جوانبه الفكرية والثقافية الأخرى التي لم تكن أقل إشراقاً.
مولده في الأندلس
ولد أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي في قرطبة بالأندلس، وعاش في الفترة بين 520-595 هجرية «1126-1198 م»، ويسميه الإفرنج Averroes، كان ينحدر من سلالة من المتبحرين والقضاة اللامعين « فجده كان قاضياً صنف في الفقه، وله فتاوى بنوازل عصره ذات مكانة عالية، وقد تسلم والده أيضاً القضاء، لكن لما شهرَ به جده ولما حظي به من مكانة، وكيما يميز عنه، يدضاف في العادة إليه لقب «الحفيد» ويضاف إلى جدِه لقب «الجد».
زار ابن رشد مدينة مراكش عاصمة الموحدين مرات، كانت أولاها، فيما يبدو، سنة 548 هـ «1153 م»، أيام عبدالمؤمن بن علي، ويبدو أنه كان منذ ذاك الحين على صلات طيبة بآل زهر ولعل انصرافه عن التكسب بالطب هو الذي زوى عنه منافسةَ آل زهر وعداوتهم وأكسبه صداقتهم، وقد توثقت صلته بأبي مروان ابن زهر، فاتفقا على أن يؤلفا معاً كتاباً جامعاً في الطب يضع ابن زهر «جزئياته» أو الجانب العملي منه، وقد وفى ابن رشد بما كان الطبيبان قد اتفقا عليه ووضع كتاب الكليات « 557 هـ – 1162 م»، ولكن ابن زهر لم يجد من وقته المملوء بالتطبيب ما يوفره على وضع الكتاب المطلوب، فوضع لابن رشد كتاباً آخر اسمه التيسير في المداواة والتدبير.
وفي سنة 548 هجرية، قدَمه ابن طفيل إلى أبي يعقوب يوسف بن عبدالمؤمن الذي يعدُ المؤسس الحقيقي لدولة الموحدين، وكان الفيلسوف ابن طفيل ذا تأثير على هذا السلطان، إذ كان السلطان يعتمد عليه في جلب العلماء والحكماء إلى بلاطه؛ وكان بين هؤلاء الفيلسوف ابن رشد، وكان لايزال في دور الشباب. وقد وصف لنا أحد تلامذة ابن رشد المقابلة الأولى التي جرت لأستاذه مع هذا السلطان، جاعلاً صيغة الكلام على لسان ابن رشد نفسه قال:
«لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب، وجدت عنده أبا بكر ابن الطفيل، فمدحني أبو بكر أمامه، ثم سألني عن اسمي وأسرتي، وقال لي: «ما هو رأي الفلاسفة في السماء، هل هي حادثة أم قديمة؟» فخفت واعتذرت، وأنكرت اشتغالي بالفلسفة. فأدرك أمير المؤمنين ما اعتراني من الخوف، فالتفت إلى أبي بكر، وأخذ يحادثه في ذلك، ويذكر له أقوال أرسطو وأفلاطون وغيرهما من الفلاسفة، وما قال أهل الملة في الردِ عليهم، حتى تعجبتُ من علمه وسعة اطلاعه، ومازال يتلطف في كلامه حتى هدأ روعي، وتكلمت بما حضرني من ذلك وأبديت رأيي».
وفاته في مراكش
بيد أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، إذ إن ابن رشد أخذ يتردد من ذلك الحين على قصر السلطان ويلتقي بابن طفيل، وذات يوم دعا ابن طفيل ابن رشد، وقال له ما مفاده إن أمير المؤمنين شكا إليه ما يجده في أسلوب أرسطو وترجمته من الصعوبة والغموض، وأنه يريد رجلاً يشرح هذه الكتب، ومما قاله ابن طفيل لابن رشد:
«إنك أقوى مني عزماً، فعليك بكتب أرسطو، وأعتقد أنك ستأتي عليها كلها، لأني أعرف سموَ عقلك، ووضوح فكرك، وتجلدك، أما أنا فإن سني واشتغالي بخدمة الأمير وصرف عنايتي – كل ذلك يمنعني من الإقدام على هذا الأمر».
لما طعن ابن طفيل في السن، حلَ ابن رشد محله في الطبابة للخليفة في العام 578 هـ «1182 م»، بيد أن ذلك لم يكن ليؤدي إلى انقطاع الصلة بين السلطان والفيلسوف، وبهذا نستطيع أن نعتبر ابن رشد «شارح» المعلم الأول أرسطو، وأكبر الفلاسفة الشرَاح أثراً في الغرب من القرن الثالث عشر إلى القرن العشرين.
ولقد بالغ سلطان الموحدين يعقوب المنصور في إكرام ابن رشد بعد وفاة والده. ولكن الدهر أبى أن ينعم بال الحكيم ابن رشد، إذ سعى به أعداؤه إلى الأمير، ورموه عنده بالزندقة والمروق، فنفاه وسائر الفلاسفة من أرضه ثم عاد الأمير إلى نفسه، فاستدعاه إلى مراكش واعتذر إليه، وظاهر نعمته عليه، ولكن الفيلسوف ما لبث أن توفي بمراكش سنة 595 هجرية – 1198 ميلادية.