كتب - أمين صالح:
ميكايل هانيكه Michael Haneke واحد من أهم مخرجي السينما الأوروبية، والأعلى مكانةً وتقديراً. عبر أفلامه الهامة، سلط هانيكه ضوءاً ساطعاً على أجواء النزوع إلى الشك والارتياب (البارانويا)، النابع من الشعور الحاد بالذنب، والذي يتصل بسلوكيات ومواقف العائلة المنتسبة إلى الطبقة المتوسطة. كما أظهر براعة في تحري القضايا الاجتماعية من خلال كاميرا حساسة وواعية، وعين قادرة على سبر مختلف المشاعر والانفعالات.
وفي فيلمه «الشريط الأبيض» The White Ribbon 2009، يتحرى المخرج جذور الشر، من خلال أسئلة كونية عما يتلقاه الأطفال من دروس وتعاليم بشأن السلطة والفضيلة والإيمان والامتثال والذنب.. وغيرها من المفاهيم العامة والمطلقة التي تتخطى أي حركة محلية أو قومية.
يمثل هذا الفيلم، عودة هذا المخرج المبدع، بعد أكثر من عقد، إلى تصوير الفيلم في ألمانيا وباللغة الألمانية. هنا يركز بؤرته، على نحو مكثف، على الطفولة، العائلة، العلاقات الطبقية في مجتمع قمعي وكابح. كاشفاً عن الطبيعة السامة، الهدامة، للتشدّد الديني. مقدماً تأملاً قاتماً فيه يستكشف تأثيرات العنف البدني والنفسي. ومحققاً وثيقة رائعة عن الكبح الديني والإفلاس الأخلاقي والظلم الاجتماعي وتفشي الشر الذي ينخر أساس مجتمع يتجه حثيثاً نحو تدمير نفسه والآخر عبر حروب طاحنة تلوح في الأفق.
يحكي ميكايل هانيكه، على نحو مفاجئ، وبشكل يستعصي على الفهم، كيف أن القرية تشهد أحداثاً غريبة، غامضة، مرعبة، تقع ضمن فصول تتعاقب ببطء على مدى شهور. تلك الأحداث تشمل سلسلة من الأفعال العنيفة التي -في معظمها- لا نرى مرتكبيها ولا نجد لها تبريراً أو تفسيراً، والتي ظاهرياً لا تبدو متصلة ببعضها أو ذات علاقة في ما بينها: تعثر حصان الطبيب وكبوته بفعل مكيدة مدبرة، وذلك بعد مروره بسلك خفي مشدود إلى شجرتين، وينتج عن السقطة تعرض الطبيب لأذى خطير يستدعى إدخاله المستشفى. اختطاف ابن البارون المدلل ثم العثور عليه في المنشرة مضروباً بوحشية ومعلقاً من قدميه. موت امرأة فلاحة في المنشرة، هذا الحادث الذي يفضي إلى انتحار زوجها المزارع من فرط اليأس والعجز. تعريض طفل وكيل المزرعة لخطر الإصابة بداء الرئة الفاتك عبر وضعه قرب نافذة مفتوحة. احتراق مخزن المزرعة في الليل. تعرّض طفل معاق ذهنياً (هو ابن القابلة) لاعتداءٍ ضارٍ كاد أن يفضي به إلى العمى، ويجدون حول عنقه رسالة من مجهول تعلن أن تعريض الأطفال للعقاب هو بسبب الآثام والخطايا التي اقترفها ذووهم.
وهناك حوادث أخرى تقع على الشاشة أمام مرأى المتفرج: تخريب ابن المزارع حقل الكرنب الخاص بالبارون في محاولة انتقامية ثأراً لموت أمه، رمي ابن البارون في النهر وهو لا يجيد السباحة في محاولة متعمدة لإغراقه، ابنة القس تقتل بقسوة طائر أبيها وتضعه على طاولته في شكل صليب.
هذه الأفعال العنيفة تثير الاضطراب عند سكان القرية الهادئة، المسالمة، وتشيع حالات من الارتياب والتوجس والقلق في الأوساط المختلفة والمتباينة. كما تؤدى إلى اختفاء أو رحيل عائلات من القرية إلى أماكن أخرى أكثر أماناً، كعائلة الطبيب والقابلة.
تدريجياً يبدأ المدرس، راوي الفيلم، في الارتياب بمجموعة من الأطفال، من الجنسين، الذين يتواجدون معاً باستمرار، مترددين في فضول قرب موقع كل جريمة تقريباً، متظاهرين بالبراءة والتقوى، والذين هم في الأساس ضحايا قمع وكبت واستغلال جنسي. لكن حتى لو كانت أصابع الاتهام موجهة نحو هؤلاء الأطفال، فإن الطرف المسؤول نجده في عالم الكبار. كل فعل، يتاح لنا الاطلاع على سرّه، هو ثمرة تربة فاسدة وملوثة، وهو فعل انتقامي موجه ضد النظام الاجتماعي القمعي، الثورة أو التمرد ضد الأب وما يمثله من سلطة. تحدي كل سلطة. بعض الأفعال تحركها الغيرة الطبقية، الثأر من الإذلال والقسوة وسوء المعاملة.
إن محاولات هذا المدرّس للكشف عن الجانب المخيف من حياة سكان المنطقة يفضي إلى طرده وإبعاده.. عندما يصرّح بشكوكه إلى القس متهماً ابنه وابنته، مع آخرين، بارتكاب تلك الأفعال الشنيعة، يثور القس، رافضاً أن يصدّق ادعاءاته، ويطرده من بيته بعد أن يهدد بمقاضاته إن كرّر اتهاماته.
تطرق عدد من النقاد إلى سبر الفيلم لمفاهيم السلطة، الاستبداد، العنف، الفضيلة، الطهارة، الإيمان، البراءة، الإثم، العقاب، والدور الذي تمارسه مثل هذه المفاهيم في تنشئة أطفال القرية، لكنهم أيضاً أشاروا إلى اتصال موضوع الفيلم بالتاريخ الألماني، وتحري الأصول الاجتماعية للحركة الاشتراكية القومية في ألمانيا، مؤكدين وجود تلميحات، أو إشارات ضمنية في الفيلم، إلى النازية. بل إن بعض النقاد ركزوا في تأويلهم للفيلم على هذا المنحى: بحث الفيلم في جذور النازية واستقصاء المنابت العميقة لنشوء أو تكوّن النازية، أو بالأحرى استكشاف منبع الدعم الذي حصل عليه النازيون حتى يصعدوا إلى السلطة. هذا التأويل يستند إلى بعض الشواهد الواردة في الفيلم، وإلى الإشارات الضمنية: واقع أن الأحداث تدور في مجتمع تهيمن عليه المفاهيم البروتستانتية من كبح وانضباط وصرامة وقسوة وتعصب، إرغام الأطفال على وضع أشرطة الطهارة والتي لا تختلف في الشكل عن الصليب المعقوف، الإيحاء بأن الأطفال الذين يرتكبون الآن أفعالاً وحشية على نحو عشوائي سوف يكبرون ليشكلوا جيلاً ينتج أشكالاً متطورة ومنظمة من المجازر والإبادة الجماعية.
غير أن هانيكه ينكر أي علاقة بفيلمه مع النازية أو أي قضية في التاريخ الألماني.. بدلاً من ذلك، هو يصرّح بأن الفيلم يقدّم بياناً عاماً عما يمارسه أي نظام قمعي في تحريف أفراده من الشباب. يقول هانيكه: «الفيلم نفسه لا يقول شيئاً عن الفاشية. نحن ببساطة نصوّر مجموعة من الأطفال الذين يعيشون وفق المثل التي غرسها فيهم ذووهم. على أساس هذه المثل يحاكم الأطفال آباءهم. عندما يدركون أن الآباء لا يعملون وفق القوانين التي يبشرون بها، يقوم الأطفال بمعاقبة الآباء».
كما يؤكد أن فيلمه، جوهرياً، هو بحث في جذور نوع معين من الشر.. سواء أكان إرهاباً دينياً أو سياسياً. ذلك الشر الجوهري الذي يكمن في الطبيعة البشرية، والذي يمارس على نطاق جماعي، حين تبدأ طرائق التفكير القديمة في الوقوع في دائرة النفاق والانتهازية، وتحل محلها أشكال أكثر قسوة وعنفاً.
يقول هانيكه: «ليس صدفة اختياري تلك الفترة من التاريخ لتقديم قصتي. لاشك أن الأطفال سوف يكبرون ليمثلوا الجيل النازي ويلعبوا دوراً في المرحلة الفاشية، لكنني لم أرد للفيلم أن يختزل في هذا المثال، في هذا النموذج المحدد. كان بوسعي أن أحقق فيلماً عن إيران المعاصرة وأطرح السؤال ذاته: كيف بدأ التعصب؟».