قال الباحث في المركز القومي للأبحاث بفرنسا آلان دييكوف إن الصهيونية المنتهكة للحرمات في الظاهر، أضفت طابعاً دينياً على إستراتيجياتها وقد وفرت في الواقع صورة حية لخلاص مسيحاني سائر نحو التحقق وفقاً لحاخاماتها.
وأشار آلان دييكوف، في دراسة تحت عنوان «علاقة الدين بالسياسة في الفكر اليهودي» ترجمها الأستاذ التونسي بجامعة روما عزالدين عناية وتنشرها «الوطن»، إلى أن إعادة تشكيل المسيحانية كان ضرورياً لشرعنة مساهمة الحاخامات داخل المنظمة الصهيونية المؤسسة مع هرتزل في 1897م؛ ضرورياً بشكلين، بدءا لتأكيد شرعية المسار الصهيوني الديني في مواجهة إنتلجنسيا يهودية روسية، ممثلة في شخصيات مثل حاييم وايزمان، شديدة الانتقاد للنظام الإكليروسي، ولاحقاً للتملص من التقليدية المتزمتة المدافع عنها سوياً، سواء من جانب الناطقين باسم الحاسيدية ذوي المقاربة الصوفية لليهودية، أو مع الممسكين بزمام الأكاديميات الدينية -يشيفوت-، الداعين لعقلانية تقوية.
وأوضح أن التميزات جلية بينهما في تطبيق اليهودية، ذات الصبغة العاطفية مع السلف والرصانة العقلانية مع الخلف. ويتحد هذان التياران وبشكل آخر، في ولائهما المشترك لمسيحانية منفعلة، على رفض مطلق للصهيونية، معتبرة لديهم بمثابة الهرطقة. إذ ما يقوم به دعاتها من تنظيم لهجرة اليهود إلى أرض إسرائيل غاية تكوين مجتمع مستقل، يمثل لديهم خلاصاً، يكون عملاً معجزاً لله وحده، باعتبار التجميع الصادق للمشتتين من شأنه وفعله. ولتجاوز تلك الإدانة الصريحة المهيمنة في الحركة الأرثوذكسية، سوف يستعمل الحاخامات الموالون للصهيونية مثل صامويل موهلافر ويعقوب رانز، اللذين أسسا سنة 1902 حزب مرزحاي «المركز الروحي»، حجية مزدوجة.
وأضاف أن الصهيونية تفتقر كليا للجانب الروحي بصفتها بصورة إجمالية مادية وسياسية، لذلك فإن تعاون اليهود المتدينين معها كان باهتاً، جراء تجردها من أي دلالة دينية، علاوة على أنها لم تضع محل تساؤل الرؤية التقليدية للخلاص.
وفيما يلي الجزء الأول من نص الدراسة:
علاقة الدين بالسياسة في الفكر اليهودي (1)
نص: آلان دييكوف
ترجمة: عزالدين عناية
باحث في المركز القومي للأبحاث-فرنسا
أستاذ تونسي بجامعة روما
يلاحظ المتابع للشأن العربي الإسرائيلي هيمنة الرؤية السياسية، في تفسير ما يتصل بمبحث الفكر الديني اليهودي، مما خلف مقاربة قاصرة ألحقت ضرراً بالرؤية العربية. ومن هذا الباب نرى غياباً لدراسة الفكر الديني اليهودي بشكل موضوعي، القديم منه والحديث، إلا في ما ندر، واختزالاً لإسرائيل في محددات سياسية لا غير. وبرغم إنشاء العديد مما يسمى بمراكز الأبحاث، في بلدان عربية عدة، تزعم أنها تولي الشأن الإسرائيلي واليهودي اهتماماً، فإن هناك غياباً لافتاً لإيلاء الجانب الديني العميق، الذي تستند إليه إسرائيل دراسة علمية. آن الأوان للعقل العربي أن يؤسس «علم يهوديات»، أو كما سبق أن أطلقنا عليه اسم «الاستهواد العربي»، حتى يمسك بخيوط ظواهر متنوعة في غاية التشابك.
«المترجم»
أثارت التحولات الاجتماعية السياسية التي شهدها العالم اليهودي منذ القرن الثامن عشر تساؤلاً جذرياً عميقاً: ضمن أية حدود يحضر، وبالمثل يغيب، التواصل العميق بين عهدي ما قبل الانعتاق وما بعد الانعتاق؟ سؤال مصيري، يحشر ضمن سياقه، المدلول العميق للمصير اليهودي المعاصر، وانخراطه ضمن مسار التاريخ. لأن التفسيرات المتعاضدة توفر انسجاماً متيناً فيما بينها، فليس من النشاز معاينة مقاربتين متضاربتين، تتردد كلتاهما، وبصفة دائمة، على سوق الأفكار. إذ وفر الجدل الذي حرك عديد المجالس الفكرية اليهودية خلال الاحتفال بالذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية، صورة حيوية عن الأمر.
فمن ناحية، أولئك الذين يقدمون أنفسهم بكونهم «جمهوريين» وينوهون بترقي اليهود إلى مرتبة المواطنة الفردية –وهو تقدير في غاية الإيجابية-، والتي ضمنت لهم الخروج من الغيتو، حيز الانغلاق، واكتساب الحريات الشخصية، التي منحت اليهود بشكل ما، أشكال كرامتهم الإنسانية. فالثورة وفق هذا التمشي دشنت حقبة جديدة، دفعت خلالها اليهود باتجاه الحداثة.
وعلى نقيض ذلك الطرح، نجد أولئك الذين صاغوا مقاربة نقدية لـ»إيديولوجية المئوية الثانية» من خلال تأكيدهم على الأبعاد الإشكالية للانعتاق؛ إذ يبرزون أن سياق العلمنة الذي رافق تطور الجمهورية، شهد إمحاءً جزئياً للايهودية المسيحية لفائدة لاسامية عرقية أكثر خطورة، لتأسسها على ادعاء بشأن الطبيعة البيولوجية لليهود، الثابتة والمتدينة. ويعود هؤلاء بظهور الحداثة اليهودية، إلى التطورات التي هزت المجتمع اليهودي في بداية العصر الوسيط. وضمن هذا المنظور الثوري، ليس الأمر مرده إلى ظهور فجئي، وإنما هو واقعة ينبغي فهمها انطلاقاً من الماضي والتراث.
القطيعة أم التواصل؟ هذان العاملان هما في الحقيقة حاضران في يهودية ما بعد الثورة، ولكن الإشكالية بالأساس هي في التفكير بأمرهما معاً، بصفتهما لحظتين لسياق جدلي موحد.
الانعتاق والكتابة الثانية للمسيحانية
لقد حضر الانعتاق مرجعاً أساسياً لليهودية تحت ضربين مختلفين خلال القرن التاسع عشر:
- انعتاق فردي في مجتمعات أوروبا الغربية، أين استطاع اليهود تحقيق الاندماج التدريجي بعد تجاوز عوائق الضوابط الشرعية.
- انعتاق جماعي، كما هو الأمر في الإمبراطورية القيصرية، عد بمثابة العلاج الوحيد لأوتوقراطية مستحكمة. فمنطق الانعتاق يحض اليهود على تبني أنماط تفكير مستحدثة. فما عاد اليهودي فرداً من شعب مشتت، مكون من جماعات متناثرة «كملوت» ومصبوغة بتشريع ديني؛ ولكنه بات مواطناً من الدولة الفرنسية، أو الإيطالية، أو الألمانية، مؤمناً بالعقيدة الموسوية، أو كما هو الأمر في روسيا، مناضلاً ثورياً في حزب اشتراكي بصدد التشكل، أو عضواً في أمة يهودية ساعية نحو تقرير مصيرها داخل الإمبراطورية، مثل البندية، أو الحكم الذاتي لسيمون دوبنوف، أو السجمية للحزب العمالي الاشتراكي اليهودي، أو كما هو الأمر في فلسطين مع الصهيونية.
وعلى مستو تاريخي، مثل الانعتاق، دون شك، تغيراً جوهرياً في تشكل الهوية اليهودية. ولكن التراجع المتطور لشرائح واسعة من المجتمع اليهودي التقليدي، لا يعني البتة التفكك الكلي لنسق القيم اليهودية. بل بالعكس، فمن البين ملاحظة، أنه في الآن الذي تمت فيه عملية الاندماج الاجتماعي والمثاقفة بشكل متطور، فإن القانون الأخلاقي اليهودي ما عرف أبداً الهجران، ولكن أعيد استثماره وتكييفه وتشكيله. وقد تجلى ذلك بجلاء في مسألة أساسية مع موضوع المسيحانية. فالترجي المسيحاني بطابعه المزدوج: البنائي، بالعودة إلى العصر الذهبي للأصول؛ واليوطوبي، بالإرساء لعالم مختلف وفاضل، قد وقع تبلوره في فترة الهيكل الأول، بين القرن العاشر والسادس قبل الميلاد، والذي أصبح شيئاً فشيئاً عقيدة ثابتة في اليهودية. وبقدر ما كانت الحياة المعيشية لليهود صعبة ومغتربة في المنفى، بقدر ما بات المستقبل محملاً بكافة الوعود الخارقة. فسياق الانعتاق لم يلغ ذلك الانتظار لمتوهج للخلاص، بل قاد إلى تأويل مستجد، بالاستثناء طبعاً، في الأوساط الأرثوذكسية السائرة نحو الاندحار، التي تسعى للحفاظ على نمط الحياة اليهودية، أي الطابع المعجز والرؤيوي للمسيحانية. بالإضافة، سيتضافر انخراط اليهود في مجتمعات أوروبا الغربية، مع انتشار ثان لديناميكية مسيحانية باتجاه البلدان التي حازوا فيها المواطنة.
إذا اعتبر الانعتاق بمثابة التحقق للمثال المسيحاني مع مبدأ الأخوة الكوني، وبات نابليون ولويس فيليب بمثابة قورش الذي حرر اليهود من العبودية ومنحهم الحرية. وأصبحت فرنسا الأرض المقدسة الجديدة، وصار إعلان حقوق الإنسان الوصايا العشر الحديثة. فهذا الخطاب المدعوم من قبل العديد من الحاخامات، الذين ماثلوا بحماس بين تاريخ فرنسا والتاريخ التوراتي، سمح بالحفاظ على ديمومة الدلالة المسيحانية، مع إعطائها توجهاً محدثاً وذا طابع إجرائي مباشر. ويعتبر موقف الحاخامات الإصلاحيين الألمان المجتمعين بفرانكفورت، سنة 1845م، نموذجياً في هذه الحركة، حتى أنهم عملوا على إلغاء أي توجه للانبعاث الوطني لليهود في فلسطين، وألحوا على ضرورة إتاحة مكانة متقدمة للفكرة المسيحانية في الصلوات، حيث اليهود ملقى على عاتقهم نشر رسالة التآخي بين البشر. وكذلك الأمر مع الولايات المتحدة خلال الحقبة المعاصرة، وكأنها تمثل، باستعادة مصطلحات إعلان بيتسبورغ 1885م، «التحقيق للرجاء المسيحاني الأكبر لإسرائيل، في إرساء الحقيقة، والعدالة، والسلم بين البشر». وفي الوقت نفسه الذي هجر فيه اليهود الإصلاحيون، الموالون لتكييف اليهودية مع نسق التطور الاجتماعي، فكرة التأسيس السياسي ليهوذا، تحت إمرة مسيا متحدر من بيت داود، فإنهم عملوا على صهينة أمريكا: حيث أصبح العالم الجديد التجسد لأورشليم التوراتية، وبات الموقعون على إعلان الاستقلال، بمثابة شخصيات نبوية مكرمة. إضافة إلى ذلك فقد وظفت الصورة المسيحانية لدعم الاندماج الاجتماعي السياسي لليهود بالولايات المتحدة. ومما ساعد على تيسير هذا التحول للمسيحانية، التاريخ الروحي الخاص بالولايات المتحدة، فقد عاش الطهريون هجرتهم في القرن السابع عشر، بمثابة النزول بالأرض الموعودة، من أجل تشييد أورشليم الجديدة.
إذ شاع نمط آخر من التشكل المسيحاني، داخل أحضان الحركات الثورية، حيثما كان اليهود متواجدين بكثافة. وتتفسر تلك الواقعة بيسر، من وجهة نظر سوسيولوجية، بصفة هؤلاء «المثقفين العائمين» المعاينين من طرف كارل مانهايم، قد انحصروا بين عالم يهودي تقليدي، كانوا قد هجروه، ومجتمع مضيف لم يقدروا على اختراقه، على غرار حالة روسيا وكذلك حالة ألمانيا. فبطبيعتهم تلك، كانوا محمولين على انتقاد النظام الاجتماعي الذي ألقاهم على أطرافه. وقد تمت تلك الحركة النقدية عموماً بالاعتماد على حجية عقلية مستمدة من الماركسية. ولكن الانتقاد للمجتمع البرجوازي والتطلع لتغييره ببديل عادل، قد اندست فيه نفحة مسيحانية خفية وغير جلية. فقد أكد العديد من الكتاب على أن رغبة الماركسية في تأسيس عالم عادل ومتساو، مستبطنة ببعد مسيحاني مضمر. ولاحظ كارل لويث، تلميذ هايدغر، أن البيان الشيوعي «هو وثيقة نبوية، وقرار ودعوى للعمل، وليس معاينة علمية صرفة مبنية على حجّة اختبارية للوقائع المحسوسة».
وذهب الفيلسوف الروسي نيكولا برداييف ذلك المذهب، مرتئياً في مذهب كارل ماركس «أن البروليتاريا هي إسرائيل الجديدة، شعب الله المختار، وهي المحررة والمشيدة للمملكة الأرضية المقبلة. فشيوعيته البروليتارية هي شكل معلمن للعهد الألفي اليهودي القديم». وإذا ما كان أغلب القادة الثوريين اليهود «تروتسكي وبرنستاين وأدلر...»، قد تخلصوا بعمق من التراث الديني، فإن ذلك لا يلغي أبداً ما أكده حدس برداييف وبالعكس، فقد كان لزاماً أن يهجر هؤلاء الرجال اليهودية التقليدية، حتى يحولوا ترجيهم الخلاصي المسبغ على الاشتراكية، لأجل صياغة صورة مستجدة للمسيحانية. فاستبطان العامل المسيحاني جلي وعميق في مختلف الاشتراكيات الفوضوية للقرن العشرين، حتى أن ميكائيل لوفي يتحدث عن تجانس خفي ومتميز بين المسيحانية اليهودية واليوطوبيا الفوضوية، في أعمال الإنتلجنسيا اليهودية في وسط أوروبا. فهؤلاء المثقفون أكانوا موالين للدين، على شاكلة مارتن بوبر، أو ملاحدة، مثل أرنست بلوخ، فإنهم سوياً تجمعهم رابطة رومانسية موحدة في معاداة الرأسمالية، ويتقاسمون رغبة عارمة في تشييد مجتمع جديد، تتحقق بفضله مملكة الرب على الأرض.
وتجلت المسيحانية كشكل لا غنى عنه، لإضفاء الشرعية، سواء بالنسبة إلى دعم النظام الديمقراطي الليبرالي، في أوروبا الغربية وأمريكا، أو إلى التنديد بالطغيان السياسي، خصوصاً في الإمبراطورية الروسية، أو أيضاً كذلك إلى انتقاد النظام الرأسمالي. وليس من المتيسر لهذه المسيحانية أن تبقى دون أثر على الإيديولوجيا القومية، إيديولوجية الصهيونية، التي تشكلت خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
من المسيحانية الواقعية إلى المسيحانية الناشطة
ينبغي لمتابعة المسألة المسيحانية لزاماً، الصعود باتجاه البدايات الأولى للصهيونية في أواسط القرن التاسع عشر. ومما يلاحظ بدءاً أن تشكل الصهيونية حصل في وثاق مع ظهور وعي تاريخي بالظاهرة اليهودية، وضع محل تساؤل الرؤية الثابتة ليهودية أزلية وقويمة. ففي ألمانيا في بداية القرن التاسع عشر، شهد ميلاد علم اليهودية _Vissenschaft Judentums، وبصــــورة جلية، على الوعي بتاريخية اليهود. فتلك الاستعادة الواعية للماضي اليهودي، والتي باتت موضوع معرفة وتأمل، أتت ضمن إعادة الاكتشاف للبعد الذي يتسم به الفكر الأوروبي خلال القرن الأخير. ذلك أن عهد التاريخ النقدي يتأسّس على أنقاض التراث الخرافي، الذي يموقع توالي الأحداث في زمن ثابت، ويؤول إياها بصفتها تنوعات مختلفة لوعي أسطوري بالحياة. ذلك الوعي بتورخة المسائل سوف يخترق العالم اليهودي، بانسياب معطيات شرعية مستجدة لمعنى الفعل. وهو ما سيعيد النشاط للمسيحانية، بعد أن عرفت ترصنها عبر القرون، بالرغم مما لازمها من انجراح حتى فترة أخيرة، بفعل الضياع التام للاستقلال اليهودي، بعد خيبة سيمون باركوكبا 135م، والتي سنحت لبعض الأوساط الدينية عصرئذ أن تضفي عليها صبغة مسيحيانية. واحترز بعض الحاخامات أيضاً، مما دفعهم إلى محاصرة مظاهر الهيجان المسيحاني غير المنضبط، والذي يوشك، في حالة الخيبة، أن يزعزع أوضاع اليهود في الشتات. وبمراجعة ذلك الركن الإيماني، عودة المسيا، يبدي فقهاء الشريعة حذراً كبيراً تجاه الحركات ذات الادعاء المسيحاني، التي ظهرت في التاريخ اليهودي عبر القرون. فملحمة سبتاي زيفي التي أثارت موجة حماس هائلة في العالم اليهودي (1665-1667م)، والتي انتهى صاحبها بالاهتداء إلى الإسلام، مخلفاً عدداً من حواريه في متاهة حقيقية، دعمت الإدانات الصادرة عن السلطات الحاخامية. وتحييد الطابع الحيوي والسياسي طبعا، للمسيحانية طبعها بميزات ثلاث: منفعلة «حيث الخلاص يتم بصفة إعجازية»، وطوباوية «حيث ترسي عهداً جذرياً مستجداً»، ورؤيوية «حيث تأتي على إثر اجتياح الكوارث الفاجعة». ولا يعني التحييد أبداً الإلغاء للمسيحانية، ولكن إعادة التوجيه لها ضمن توجه شخصي وباطني. وأصبح الإنسان اليهودي –وتلك الدعوة الأساسية للحاسيدية التي ظهرت في جنوب أكرانيا خلال القرن 18- مدعوا لتحقيق خلاصه الصوفي من خلال تطوير توحده الصادق مع الله «ترقي الدفكوت». فاليهودي ينبغي ألا يتدخل مباشرة في التاريخ، على شاكلة الساباتية، بل ينبغي أن يتمركز على خلاص روحه. وسوف يتم انكشاف تاريخية اليهود ذلك «النظام المسيحاني السكوني»، المتواجد في بعض الأوساط الأرثوذكسية المهمشة، ولكنها ذات قيمة رمزية. فالأشخاص –الحاخامات منهم بالخصوص-، الذين بدأوا في سنوات 1850-1860م ينادون بالعودة إلى صهيون، بدوا للوهلة الأولى بمثابة متنورين طيبين، في حين كانت مساهمتهم الإيديولوجية مهمة، حتى وإن لم تتخذ تجديداتهم معنى سوى في العقود الثلاثة اللاحقة، عندما بدت الحركة الصهيونية في الظهور وبداخلها جناح ديني. ومن اللازم ملاحظة أمرين مع الرواد الأوائل للصهيونية، حيث الوجوه البارزة كان من بينها الحاخام السفاردي يهوذا القلعي «1798-1878م»، وابن ملته الأشكنازي زيفي هريش كاليشار «1795-1874م».
وأشار آلان دييكوف، في دراسة تحت عنوان «علاقة الدين بالسياسة في الفكر اليهودي» ترجمها الأستاذ التونسي بجامعة روما عزالدين عناية وتنشرها «الوطن»، إلى أن إعادة تشكيل المسيحانية كان ضرورياً لشرعنة مساهمة الحاخامات داخل المنظمة الصهيونية المؤسسة مع هرتزل في 1897م؛ ضرورياً بشكلين، بدءا لتأكيد شرعية المسار الصهيوني الديني في مواجهة إنتلجنسيا يهودية روسية، ممثلة في شخصيات مثل حاييم وايزمان، شديدة الانتقاد للنظام الإكليروسي، ولاحقاً للتملص من التقليدية المتزمتة المدافع عنها سوياً، سواء من جانب الناطقين باسم الحاسيدية ذوي المقاربة الصوفية لليهودية، أو مع الممسكين بزمام الأكاديميات الدينية -يشيفوت-، الداعين لعقلانية تقوية.
وأوضح أن التميزات جلية بينهما في تطبيق اليهودية، ذات الصبغة العاطفية مع السلف والرصانة العقلانية مع الخلف. ويتحد هذان التياران وبشكل آخر، في ولائهما المشترك لمسيحانية منفعلة، على رفض مطلق للصهيونية، معتبرة لديهم بمثابة الهرطقة. إذ ما يقوم به دعاتها من تنظيم لهجرة اليهود إلى أرض إسرائيل غاية تكوين مجتمع مستقل، يمثل لديهم خلاصاً، يكون عملاً معجزاً لله وحده، باعتبار التجميع الصادق للمشتتين من شأنه وفعله. ولتجاوز تلك الإدانة الصريحة المهيمنة في الحركة الأرثوذكسية، سوف يستعمل الحاخامات الموالون للصهيونية مثل صامويل موهلافر ويعقوب رانز، اللذين أسسا سنة 1902 حزب مرزحاي «المركز الروحي»، حجية مزدوجة.
وأضاف أن الصهيونية تفتقر كليا للجانب الروحي بصفتها بصورة إجمالية مادية وسياسية، لذلك فإن تعاون اليهود المتدينين معها كان باهتاً، جراء تجردها من أي دلالة دينية، علاوة على أنها لم تضع محل تساؤل الرؤية التقليدية للخلاص.
وفيما يلي الجزء الأول من نص الدراسة:
علاقة الدين بالسياسة في الفكر اليهودي (1)
نص: آلان دييكوف
ترجمة: عزالدين عناية
باحث في المركز القومي للأبحاث-فرنسا
أستاذ تونسي بجامعة روما
يلاحظ المتابع للشأن العربي الإسرائيلي هيمنة الرؤية السياسية، في تفسير ما يتصل بمبحث الفكر الديني اليهودي، مما خلف مقاربة قاصرة ألحقت ضرراً بالرؤية العربية. ومن هذا الباب نرى غياباً لدراسة الفكر الديني اليهودي بشكل موضوعي، القديم منه والحديث، إلا في ما ندر، واختزالاً لإسرائيل في محددات سياسية لا غير. وبرغم إنشاء العديد مما يسمى بمراكز الأبحاث، في بلدان عربية عدة، تزعم أنها تولي الشأن الإسرائيلي واليهودي اهتماماً، فإن هناك غياباً لافتاً لإيلاء الجانب الديني العميق، الذي تستند إليه إسرائيل دراسة علمية. آن الأوان للعقل العربي أن يؤسس «علم يهوديات»، أو كما سبق أن أطلقنا عليه اسم «الاستهواد العربي»، حتى يمسك بخيوط ظواهر متنوعة في غاية التشابك.
«المترجم»
أثارت التحولات الاجتماعية السياسية التي شهدها العالم اليهودي منذ القرن الثامن عشر تساؤلاً جذرياً عميقاً: ضمن أية حدود يحضر، وبالمثل يغيب، التواصل العميق بين عهدي ما قبل الانعتاق وما بعد الانعتاق؟ سؤال مصيري، يحشر ضمن سياقه، المدلول العميق للمصير اليهودي المعاصر، وانخراطه ضمن مسار التاريخ. لأن التفسيرات المتعاضدة توفر انسجاماً متيناً فيما بينها، فليس من النشاز معاينة مقاربتين متضاربتين، تتردد كلتاهما، وبصفة دائمة، على سوق الأفكار. إذ وفر الجدل الذي حرك عديد المجالس الفكرية اليهودية خلال الاحتفال بالذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية، صورة حيوية عن الأمر.
فمن ناحية، أولئك الذين يقدمون أنفسهم بكونهم «جمهوريين» وينوهون بترقي اليهود إلى مرتبة المواطنة الفردية –وهو تقدير في غاية الإيجابية-، والتي ضمنت لهم الخروج من الغيتو، حيز الانغلاق، واكتساب الحريات الشخصية، التي منحت اليهود بشكل ما، أشكال كرامتهم الإنسانية. فالثورة وفق هذا التمشي دشنت حقبة جديدة، دفعت خلالها اليهود باتجاه الحداثة.
وعلى نقيض ذلك الطرح، نجد أولئك الذين صاغوا مقاربة نقدية لـ»إيديولوجية المئوية الثانية» من خلال تأكيدهم على الأبعاد الإشكالية للانعتاق؛ إذ يبرزون أن سياق العلمنة الذي رافق تطور الجمهورية، شهد إمحاءً جزئياً للايهودية المسيحية لفائدة لاسامية عرقية أكثر خطورة، لتأسسها على ادعاء بشأن الطبيعة البيولوجية لليهود، الثابتة والمتدينة. ويعود هؤلاء بظهور الحداثة اليهودية، إلى التطورات التي هزت المجتمع اليهودي في بداية العصر الوسيط. وضمن هذا المنظور الثوري، ليس الأمر مرده إلى ظهور فجئي، وإنما هو واقعة ينبغي فهمها انطلاقاً من الماضي والتراث.
القطيعة أم التواصل؟ هذان العاملان هما في الحقيقة حاضران في يهودية ما بعد الثورة، ولكن الإشكالية بالأساس هي في التفكير بأمرهما معاً، بصفتهما لحظتين لسياق جدلي موحد.
الانعتاق والكتابة الثانية للمسيحانية
لقد حضر الانعتاق مرجعاً أساسياً لليهودية تحت ضربين مختلفين خلال القرن التاسع عشر:
- انعتاق فردي في مجتمعات أوروبا الغربية، أين استطاع اليهود تحقيق الاندماج التدريجي بعد تجاوز عوائق الضوابط الشرعية.
- انعتاق جماعي، كما هو الأمر في الإمبراطورية القيصرية، عد بمثابة العلاج الوحيد لأوتوقراطية مستحكمة. فمنطق الانعتاق يحض اليهود على تبني أنماط تفكير مستحدثة. فما عاد اليهودي فرداً من شعب مشتت، مكون من جماعات متناثرة «كملوت» ومصبوغة بتشريع ديني؛ ولكنه بات مواطناً من الدولة الفرنسية، أو الإيطالية، أو الألمانية، مؤمناً بالعقيدة الموسوية، أو كما هو الأمر في روسيا، مناضلاً ثورياً في حزب اشتراكي بصدد التشكل، أو عضواً في أمة يهودية ساعية نحو تقرير مصيرها داخل الإمبراطورية، مثل البندية، أو الحكم الذاتي لسيمون دوبنوف، أو السجمية للحزب العمالي الاشتراكي اليهودي، أو كما هو الأمر في فلسطين مع الصهيونية.
وعلى مستو تاريخي، مثل الانعتاق، دون شك، تغيراً جوهرياً في تشكل الهوية اليهودية. ولكن التراجع المتطور لشرائح واسعة من المجتمع اليهودي التقليدي، لا يعني البتة التفكك الكلي لنسق القيم اليهودية. بل بالعكس، فمن البين ملاحظة، أنه في الآن الذي تمت فيه عملية الاندماج الاجتماعي والمثاقفة بشكل متطور، فإن القانون الأخلاقي اليهودي ما عرف أبداً الهجران، ولكن أعيد استثماره وتكييفه وتشكيله. وقد تجلى ذلك بجلاء في مسألة أساسية مع موضوع المسيحانية. فالترجي المسيحاني بطابعه المزدوج: البنائي، بالعودة إلى العصر الذهبي للأصول؛ واليوطوبي، بالإرساء لعالم مختلف وفاضل، قد وقع تبلوره في فترة الهيكل الأول، بين القرن العاشر والسادس قبل الميلاد، والذي أصبح شيئاً فشيئاً عقيدة ثابتة في اليهودية. وبقدر ما كانت الحياة المعيشية لليهود صعبة ومغتربة في المنفى، بقدر ما بات المستقبل محملاً بكافة الوعود الخارقة. فسياق الانعتاق لم يلغ ذلك الانتظار لمتوهج للخلاص، بل قاد إلى تأويل مستجد، بالاستثناء طبعاً، في الأوساط الأرثوذكسية السائرة نحو الاندحار، التي تسعى للحفاظ على نمط الحياة اليهودية، أي الطابع المعجز والرؤيوي للمسيحانية. بالإضافة، سيتضافر انخراط اليهود في مجتمعات أوروبا الغربية، مع انتشار ثان لديناميكية مسيحانية باتجاه البلدان التي حازوا فيها المواطنة.
إذا اعتبر الانعتاق بمثابة التحقق للمثال المسيحاني مع مبدأ الأخوة الكوني، وبات نابليون ولويس فيليب بمثابة قورش الذي حرر اليهود من العبودية ومنحهم الحرية. وأصبحت فرنسا الأرض المقدسة الجديدة، وصار إعلان حقوق الإنسان الوصايا العشر الحديثة. فهذا الخطاب المدعوم من قبل العديد من الحاخامات، الذين ماثلوا بحماس بين تاريخ فرنسا والتاريخ التوراتي، سمح بالحفاظ على ديمومة الدلالة المسيحانية، مع إعطائها توجهاً محدثاً وذا طابع إجرائي مباشر. ويعتبر موقف الحاخامات الإصلاحيين الألمان المجتمعين بفرانكفورت، سنة 1845م، نموذجياً في هذه الحركة، حتى أنهم عملوا على إلغاء أي توجه للانبعاث الوطني لليهود في فلسطين، وألحوا على ضرورة إتاحة مكانة متقدمة للفكرة المسيحانية في الصلوات، حيث اليهود ملقى على عاتقهم نشر رسالة التآخي بين البشر. وكذلك الأمر مع الولايات المتحدة خلال الحقبة المعاصرة، وكأنها تمثل، باستعادة مصطلحات إعلان بيتسبورغ 1885م، «التحقيق للرجاء المسيحاني الأكبر لإسرائيل، في إرساء الحقيقة، والعدالة، والسلم بين البشر». وفي الوقت نفسه الذي هجر فيه اليهود الإصلاحيون، الموالون لتكييف اليهودية مع نسق التطور الاجتماعي، فكرة التأسيس السياسي ليهوذا، تحت إمرة مسيا متحدر من بيت داود، فإنهم عملوا على صهينة أمريكا: حيث أصبح العالم الجديد التجسد لأورشليم التوراتية، وبات الموقعون على إعلان الاستقلال، بمثابة شخصيات نبوية مكرمة. إضافة إلى ذلك فقد وظفت الصورة المسيحانية لدعم الاندماج الاجتماعي السياسي لليهود بالولايات المتحدة. ومما ساعد على تيسير هذا التحول للمسيحانية، التاريخ الروحي الخاص بالولايات المتحدة، فقد عاش الطهريون هجرتهم في القرن السابع عشر، بمثابة النزول بالأرض الموعودة، من أجل تشييد أورشليم الجديدة.
إذ شاع نمط آخر من التشكل المسيحاني، داخل أحضان الحركات الثورية، حيثما كان اليهود متواجدين بكثافة. وتتفسر تلك الواقعة بيسر، من وجهة نظر سوسيولوجية، بصفة هؤلاء «المثقفين العائمين» المعاينين من طرف كارل مانهايم، قد انحصروا بين عالم يهودي تقليدي، كانوا قد هجروه، ومجتمع مضيف لم يقدروا على اختراقه، على غرار حالة روسيا وكذلك حالة ألمانيا. فبطبيعتهم تلك، كانوا محمولين على انتقاد النظام الاجتماعي الذي ألقاهم على أطرافه. وقد تمت تلك الحركة النقدية عموماً بالاعتماد على حجية عقلية مستمدة من الماركسية. ولكن الانتقاد للمجتمع البرجوازي والتطلع لتغييره ببديل عادل، قد اندست فيه نفحة مسيحانية خفية وغير جلية. فقد أكد العديد من الكتاب على أن رغبة الماركسية في تأسيس عالم عادل ومتساو، مستبطنة ببعد مسيحاني مضمر. ولاحظ كارل لويث، تلميذ هايدغر، أن البيان الشيوعي «هو وثيقة نبوية، وقرار ودعوى للعمل، وليس معاينة علمية صرفة مبنية على حجّة اختبارية للوقائع المحسوسة».
وذهب الفيلسوف الروسي نيكولا برداييف ذلك المذهب، مرتئياً في مذهب كارل ماركس «أن البروليتاريا هي إسرائيل الجديدة، شعب الله المختار، وهي المحررة والمشيدة للمملكة الأرضية المقبلة. فشيوعيته البروليتارية هي شكل معلمن للعهد الألفي اليهودي القديم». وإذا ما كان أغلب القادة الثوريين اليهود «تروتسكي وبرنستاين وأدلر...»، قد تخلصوا بعمق من التراث الديني، فإن ذلك لا يلغي أبداً ما أكده حدس برداييف وبالعكس، فقد كان لزاماً أن يهجر هؤلاء الرجال اليهودية التقليدية، حتى يحولوا ترجيهم الخلاصي المسبغ على الاشتراكية، لأجل صياغة صورة مستجدة للمسيحانية. فاستبطان العامل المسيحاني جلي وعميق في مختلف الاشتراكيات الفوضوية للقرن العشرين، حتى أن ميكائيل لوفي يتحدث عن تجانس خفي ومتميز بين المسيحانية اليهودية واليوطوبيا الفوضوية، في أعمال الإنتلجنسيا اليهودية في وسط أوروبا. فهؤلاء المثقفون أكانوا موالين للدين، على شاكلة مارتن بوبر، أو ملاحدة، مثل أرنست بلوخ، فإنهم سوياً تجمعهم رابطة رومانسية موحدة في معاداة الرأسمالية، ويتقاسمون رغبة عارمة في تشييد مجتمع جديد، تتحقق بفضله مملكة الرب على الأرض.
وتجلت المسيحانية كشكل لا غنى عنه، لإضفاء الشرعية، سواء بالنسبة إلى دعم النظام الديمقراطي الليبرالي، في أوروبا الغربية وأمريكا، أو إلى التنديد بالطغيان السياسي، خصوصاً في الإمبراطورية الروسية، أو أيضاً كذلك إلى انتقاد النظام الرأسمالي. وليس من المتيسر لهذه المسيحانية أن تبقى دون أثر على الإيديولوجيا القومية، إيديولوجية الصهيونية، التي تشكلت خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
من المسيحانية الواقعية إلى المسيحانية الناشطة
ينبغي لمتابعة المسألة المسيحانية لزاماً، الصعود باتجاه البدايات الأولى للصهيونية في أواسط القرن التاسع عشر. ومما يلاحظ بدءاً أن تشكل الصهيونية حصل في وثاق مع ظهور وعي تاريخي بالظاهرة اليهودية، وضع محل تساؤل الرؤية الثابتة ليهودية أزلية وقويمة. ففي ألمانيا في بداية القرن التاسع عشر، شهد ميلاد علم اليهودية _Vissenschaft Judentums، وبصــــورة جلية، على الوعي بتاريخية اليهود. فتلك الاستعادة الواعية للماضي اليهودي، والتي باتت موضوع معرفة وتأمل، أتت ضمن إعادة الاكتشاف للبعد الذي يتسم به الفكر الأوروبي خلال القرن الأخير. ذلك أن عهد التاريخ النقدي يتأسّس على أنقاض التراث الخرافي، الذي يموقع توالي الأحداث في زمن ثابت، ويؤول إياها بصفتها تنوعات مختلفة لوعي أسطوري بالحياة. ذلك الوعي بتورخة المسائل سوف يخترق العالم اليهودي، بانسياب معطيات شرعية مستجدة لمعنى الفعل. وهو ما سيعيد النشاط للمسيحانية، بعد أن عرفت ترصنها عبر القرون، بالرغم مما لازمها من انجراح حتى فترة أخيرة، بفعل الضياع التام للاستقلال اليهودي، بعد خيبة سيمون باركوكبا 135م، والتي سنحت لبعض الأوساط الدينية عصرئذ أن تضفي عليها صبغة مسيحيانية. واحترز بعض الحاخامات أيضاً، مما دفعهم إلى محاصرة مظاهر الهيجان المسيحاني غير المنضبط، والذي يوشك، في حالة الخيبة، أن يزعزع أوضاع اليهود في الشتات. وبمراجعة ذلك الركن الإيماني، عودة المسيا، يبدي فقهاء الشريعة حذراً كبيراً تجاه الحركات ذات الادعاء المسيحاني، التي ظهرت في التاريخ اليهودي عبر القرون. فملحمة سبتاي زيفي التي أثارت موجة حماس هائلة في العالم اليهودي (1665-1667م)، والتي انتهى صاحبها بالاهتداء إلى الإسلام، مخلفاً عدداً من حواريه في متاهة حقيقية، دعمت الإدانات الصادرة عن السلطات الحاخامية. وتحييد الطابع الحيوي والسياسي طبعا، للمسيحانية طبعها بميزات ثلاث: منفعلة «حيث الخلاص يتم بصفة إعجازية»، وطوباوية «حيث ترسي عهداً جذرياً مستجداً»، ورؤيوية «حيث تأتي على إثر اجتياح الكوارث الفاجعة». ولا يعني التحييد أبداً الإلغاء للمسيحانية، ولكن إعادة التوجيه لها ضمن توجه شخصي وباطني. وأصبح الإنسان اليهودي –وتلك الدعوة الأساسية للحاسيدية التي ظهرت في جنوب أكرانيا خلال القرن 18- مدعوا لتحقيق خلاصه الصوفي من خلال تطوير توحده الصادق مع الله «ترقي الدفكوت». فاليهودي ينبغي ألا يتدخل مباشرة في التاريخ، على شاكلة الساباتية، بل ينبغي أن يتمركز على خلاص روحه. وسوف يتم انكشاف تاريخية اليهود ذلك «النظام المسيحاني السكوني»، المتواجد في بعض الأوساط الأرثوذكسية المهمشة، ولكنها ذات قيمة رمزية. فالأشخاص –الحاخامات منهم بالخصوص-، الذين بدأوا في سنوات 1850-1860م ينادون بالعودة إلى صهيون، بدوا للوهلة الأولى بمثابة متنورين طيبين، في حين كانت مساهمتهم الإيديولوجية مهمة، حتى وإن لم تتخذ تجديداتهم معنى سوى في العقود الثلاثة اللاحقة، عندما بدت الحركة الصهيونية في الظهور وبداخلها جناح ديني. ومن اللازم ملاحظة أمرين مع الرواد الأوائل للصهيونية، حيث الوجوه البارزة كان من بينها الحاخام السفاردي يهوذا القلعي «1798-1878م»، وابن ملته الأشكنازي زيفي هريش كاليشار «1795-1874م».