عبدالملك: نحن ثمرة شجرة ظروف اجتماعيّة نضجنا فوقها بفعل تأثيرات مختلفة
غلوم: نظر إلى الإنسان باعتباره وحدة متحركة مع ذلك التطور
خليفة: يقتنص شخصيات وحالات من البيئة ويقدمها بملامحها العامة الواقعية
السعدون: الفنّ يتكفّل بتخليد لحظات من حياة الإنسان ويثبتها في التاريخ
قزع: منظوماته السردية قبض فيها على تقديم شخصياته وكيفية تأويل مصيرها
الستراوي: الإمبراطور الصغير رواية مشحونة بالأحداث ومكتظة بالآلام والشجون
كتب - علي الشرقاوي:
بعد رحلة أكثر من أربعين عاماً في احتراف الكتابة، والتوغل في أقاليمها، وخرائطها غير المعروفة للعالم، نحاول التسجيل لتحية مباشرة لواحد من فرسانها الذين ساهموا في الكشف عن المسكوت عنه في الحياة الاجتماعية وهو القاص والروائي محمد عبدالملك، ابن الحورة، القرية الساحلية المنامية القديمة، الحي الشعبي الذي احتضن البحر ورأى العالم بمنظره العفوي الخاص، هذا الحي الذي ولد فيه الكاتب عام 1944، ليكبر فيه ويترعرع بين دفنة الحورة، مركز تجميع القمامة في البحرين، ثم إحراقها، ومقصب الحورة الذي يستقبل كل الأغنام والأبقار، لذبحها وإيصالها، عن طريق تجار المواشي، للأهالي في منطقة المنامة والقرى المجاورة، ولأن محمد كان أكبر سناً مني - لم أتعرق عليه في مرحلة الطفولة، بقدر ما كانت علاقتي ببدر عبدالملك، أخيه الأصغر، والتي بدأت به منذ الصف الثاني ابتدائي (تحضيري) في مدرسة القضيبية.
عرفت محمد عبدالملك، كأحد المدربين المخلصين لفريق العربي، بل كنت أعتبره واحداً من المدربين الذين وصلوا إلى مرحلة الاحتراف، ثم بعد ذلك، عرفت محمد عبدالملك، كأول كاتب بحريني في مجال كرة القدم، وكان ذلك في جريدة الأضواء التي صدرت 1965، لصاحبها محمود المردي، بعد حجب الصحافة عن البحرين منذ 1956. ثم عرفته البحرين قاصاً مختلفاً عن التجارب البحرينية الأسبق في كتابة القصة، وصدرت له العديد من الأعمال الإبداعية.
موت صاحب العربة
وهي مجموعة قصصية صدرت في 1972، إضافة لمجموعات قصصية أخرى»نحن نحب الشمس»1975، و»ثقوب في رئة المدينة» 1979، و»السياج» 1982، و»النهر يجري» 1984، كما كتب روايتي «الجذوة» و»ليلة الحب». ويشير عبدالملك إلى أنه نشر أول قصة في 1965، كما نشر ثلاث مقالات أدبية تحت اسم مذكرات «سجين»، وفي 1973 جمع ما كتبه خلال ثماني سنوات وطبعه في كتاب تحت اسم «موت صاحب العربة» .
ويقول د.إبراهيم غلوم عن تجارب عبدالملك الأولى «لقد تمثل عبدالملك تلك المقولة لا بطريق قراءاته وانتشائه بآثار الواقعية ومظاهرها الفنية البارزة عند الكبار من روادها، بل لقد تمثل نبضها الحقيقي في اتصال وعيه بتلك المقولة مع وعيه بالظروف التاريخية التي يمر بها المجتمع، فبات ينظر إلى الفن والمجتمع بمنظار يستبصر الواقع، ويرتهن بموقف القوى الاجتماعية، فكما يتحرك هذا الواقع بقوانين واضحة تمليها عليه نظرته الاجتماعية التقدمية، وكما تبدو مصائر تلك القوى خاضعة لمنطق المجتمع الرأسمالي فإن مفاهيمه الفنية تبدو منتهية إلى ما هو محسوم وراسخ في الفن الواقعي، أي أن وضوح التصور الاجتماعي، وحرصه على نمذجة الخواص الوجدانية بين الفئات الشعبية هو الذي يخضع جماليات الشكل القصصي عند عبدالملك لما هو واضح ومسلم به في تاريخ الحركة الواقعية، ومن هذه الوجهة يبدو تأصيل المفهوم الجمالي للنزعة النقدية متواكباً مع تأصيل الوسائل الفنية للنزعة التحليلية السابقة مما يشير إلى تطور كيفي واسع النطاق يقترن مع المرحلة الواقعية».
واقعية عبدالملك
نظر عبدالملك إلى الإنسان باعتباره وحدة متحركة مع التطور الاجتماعي لأنه لا ينفصل عن البيئة وظروفها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومن هنا تبدو التركيبة الروحية والنفسية التي يرصدها عبدالملك نتاجاً للظرف التاريخي، كما تكون شخصياته نماذج لهذا الظرف، أو الواقع الموضوعي الذي يتمثل في حياتها. فالشخصية الواقعية تكون نموذجية حين تعبر عن سوسيولوجيا طبقات بأسرها أو شرائح اجتماعية بكاملها لأنها حينئذ لا تعكس وجودها الفردي بل إنها تعكس الواقع الكلي الذي تنتمي إليه، بما يتضمنه بناؤها الفني من تحديدات أساسية تؤلف لها ضرورة الإقناع بخصائصها الواقعية، واستطاع عبدالملك أن يستمد أكثر اللحظات مركزية وتحديداً في حياة نماذجه البشرية عن طريق استخراجها من بؤرة الانسحاق الذي تتعرض له، عندما تكون تحت وطأة مشكلة الاستغلال الاجتماعي، أو تعيش فظاعة استهلاك إنسانيتها حين تتآكلها قوانين المجتمع البرجوازي الجديد، ومن هنا تخرج شخصياته وهي تعاني أبعد صور الإجهاد والتمزق، لأنها تكون مستغلة اقتصادياً واجتماعياً، ومستهلكة إنسانياً وروحياً، وذلك وضع يجعلها محتوى حقيقياً للمشكلة الاجتماعية الكبيرة التي يرتكز عليها بناء المجتمع بنظمه الاقتصادية، ويطرح عبدالملك ذلك في مجموعته «موت صاحب العربة» التي صدرت 1972، و»نحن نحب الشمس» 1975 حيث نجد كل قصة من قصص المجموعتين تثير ذلك المحتوى في شكل معاناة أو استجلاء أو تساؤل أو احتجاج أو رفض أو تمرد أو مواجهة أو ما شابه ذلك من أشكال المعالجة، ويجد الكاتب أخصب دلالات الإجهاد والاستهلاك في الطبقة الاجتماعية العريضة ذات الامتداد التاريخي البعيد والوجدان الاجتماعي والنفسي الذي ينطوي على إيحاءات مثابرة، وخواص إنسانية عميقة، فهو ينتخب نماذجه بكل ما يتجمع حولها من تقاليد إنسانية مألوفة نابضة بحرارة وجودها في جميع ما تكون عليه من أوضاع أو طباع : صاحب عربة - عامل الشركة - الناطور - الفراش - الزبال - العاطل - السجناء - السكارى - المنبوذين المجانين - العجائز الذين فقدوا كل شيء، وبذا يتحكم الكاتب فيما يمكن تسميته تكنيك النماذج البشرية، فيجعل استجلاء كل مظاهر الواقع الاجتماعي مرهوناً بهذا التكنيك، وبقدرته على النفاذ إلى أعماق الشخصية، فالواقع الذي ينشده ويبحث فيه هو واقع الإنسان مؤلفاً من وضعه الطبقي الذي تحدده حركة المجتمع وتموجاته المستمرة، وكأنه يؤمن أن السياق النفسي والاجتماعي للإنسان هو الشكل الأقدر على طرح تساؤلاته الصدامية مع الوضعية الاستغلالية في المجتمع، وبذلك بات يغذي شخصياته بتلك القدرة على الإحساس بهذه الوضعية التي تجعلها عادة نماذج بشرية مستنكفة، لا تعدم السؤال والبحث عن حقيقة وضعها الاجتماعي، ونجد ذلك الإحساس منذ قصصه الأولى كقصة «الصمت والشقاء» التي يصور فيها وعي الشخصية بمكابدتها وعنائها من خلال ما يجول في داخلها من أسئلة فطرية تتخلق بضغوط الواقع ومظاهر الحرمان الشديد، فالتلميذ الفقير يواجه الشقاء والاضطهاد في المدرسة وفي البيت، في الوقت الذي يرى امتلاء الحياة وترفها في مظاهر كثيرة تحيط به، فهو يقطع طريق المدرسة مشياً على الأقدام، ويرى غيره يركب الدراجات، وهو يرى «نبيل» ابن الأغنياء ينزل من سيارة فخمة بحقيبته الجلدية ووجهه الأحمر المتورد، فيتذكر وجه أخيه «بخيت» و»بول الشيطان»، في رقبته ليتساءل على هذا النحو: «إذن لماذا يبول علينا الشيطان نحن كل ليلة..؟؟».
الاستنكاف والحرمان
ويظل الكاتب يتابع مظاهر الاستنكاف والحرمان الشديد الذي ينتهي به إلى السقوط بسبب سوء التغذية، وفي قصة «المطر الحزين» نجد مظاهر الحياة الاجتماعية المدقعة تمر بآثارها النفسية والروحية في حياة طفل فقير، فيجعله دائم السؤال: «لماذا نحن فقراء معدومون يا أبتِ؟»، ولا يبدو السؤال الذي تطرحه هذه النماذج المجهدة مناط المواجهة والعداء للمجتمع البرجوازي فحسب بل إن التركيبة الاجتماعية في النموذج بما يشتمل عليه من صياغات ميلودرامية تبدو محتوى عميقاً لنقد قيم المجتمع، وتعرية أشكال الاستغلال الاجتماعي، ولعل مما يساعد الكاتب على ذلك هو الاهتمام الكبير الذي ينصبه لخلق التفاصيل الواقعية، إذ يتضمن مفهوم الواقعية النقدية عادة أن يكون نسخ الصور»الكابية» للواقع الخارجي موظفاً مع أيديولوجيتها التي تساهم في نقد الواقع الاجتماعي وتحليله، لأنه حينئذ يحقق لها قيماً جوهرية يقوم عليها انعكاس الواقع الموضوعي في العمل القصصي، ولقد كان جورج لوكاتش يرى أن الصورة الوافية لهذا الواقع في التفصيل الوضعي «تعتمد على موقف الكاتب من الواقع ككل، لأن هذا الموقف يحدد الوظيفة المعينة للتفصيل الواحد في إطار الكل، فإذا تناوله الكاتب بشكل غير نقدي قد تكون النتيجة طبيعية متعسفة «كذا «.. حيث إن الكاتب لن يكون قادراً على التمييز بين التفصيل الذي له دلالته والتفصيل الذي لا صلة له بالموضوع»، وينطبق ذلك على تصوير عبدالملك للنماذج البشرية بتفاصيل تصدر غالباً من الواقع الخارجي، حيث نجد أنها كلما اقتربت من الكشف والإفصاح عن براثن المجتمع الرأسمالي أصبحت قيمتها الفنية ألصق وألزم برصانة التصوير الواقعي، وبتجسيد النظرة التقدمية أمام مظاهر الوجود الاجتماعي، بينما حين تبتعد عن ذلك الكشف والإفصاح تتضاءل قيمتها بل إنها تصبح فوتوغرافية الإدراك، تمتد لما هو عشوائي وما هو أساسي على حد سواء، الأمر الذي يباعد بينها وبين عملية الإبداع في فن القصة القصيرة.
رؤية فنية لأدب عبدالملك
تقول د.أنيسة السعدون، وهي سبق لها وأن كتبت رسالة ماجستير في تجربة عبدالملك: «يعدُّ عبدالملك من أبرز المبدعين الذين دعموا مسيرة القصة البحرينية منذ السبعينات، فقد أثرى تلك المرحلة بعدة قصص طرق فيها آفاقاً تكشف خصوصية لها لونها المحلي، ويبدو أنها خصوصية تسم السياق الحضاري الذي اختمرت فيه النزعة التأصيلية للقصة البحرينيّة، وتشفُّ عن الرؤى الفكرية التي تحكمت في رواد تلك الفترة، والتي غالباً ما كانت تدعو إلى استلهام الواقع بتجلياته، وترغب عن المروق عن المستقر من التصورات المتحكمة في نصوص تلك الفترة، ولعل في ذلك ما يفضي إلى إشارات كاشفة، ومنافذ هامة تمهد السبيل لتحليل بعض العلاقات التناصية في صلاتها بالواقع، وبخاصة أن عبدالملك كثيراً ما كان يستعين بتلك العلاقات لإنجاز عمل يختلط فيه الحلم بالواقع، والوهمي بالحقيقي، ويكفينا في هذا المقام أن نذكر إقرار عبد الملك نفسه، إذ يقول في إحدى شهاداته: «إن التغييرات في القصّة لديَّ هي بحجم التغييرات التي تفصل سني الخمسينات عن المنتصف الثاني من الستينات وبداية السبعينات، وهي الفترة التي بدأتُ فيها الكتابة، وما نحن إلا ثمرة شجرة ظروف اجتماعيّة نضجنا فوق هذه الشجرة بفعل تأثيرات مختلفة، وجاء تكويننا في النهاية ليصب في مصب هذه المرحلة التي حاولنا أن نرسم لوحتها بقدر ما رسمتنا نحن».
لقد ألمح عبدالملك في كثير من لقاءاته إلى أنه توسل بالكتابة القصصية ليقبض على لحظات الحياة التي يمكن من خلالها أن يفصح عما هو ذاتي وموضوعي في الآن ذاته، وهذا ما يجعل الفن في نظره ينهض ليتكفل بتخليد لحظات من حياة الإنسان، ويثبتها في التاريخ، وفي ذلك يقول: «إن استلهام هذه الفكرة التوحد بين الذاتي والموضوعي، يساعدني على التكون والتكوين. التكون الصحيح ضمن مجرى الحياة والتطور التاريخي، والتكوين فيما أستلهمه من رؤية للأحداث والشخصيات والمواضيع ، لذا فإن العمق أو التعمق يأتي من سبر غور هذه الظواهر المحيطة بي ضمن علاقتها المتوحدة»، ولعله استطاع أن يتوسل بفكرة التوحد هذه بصورة حملته على التسليم بأن مثل هذا التوحد يكسب العمل القصصي بعداً فنياً إنسانياً يحفظه من التلاشي، ويضمن له الانفتاح على مسافات زمنية قادمة، ولذلك ذهب إلى أن «وضع تفسير مجرد وسليم للظواهر والسلوك والأحداث ضمن علاقة الذاتي بالموضوعي يضيف إلى الكاتب قدرة استشراف المستقبل، كما يعطيه دفقاً من الأمل والثقة بالنفس وبالناس، فالأشياء هي ببواطنها وليست بالظواهر، وهكذا أحاول أن أقول ما هو خفي وبعيد، وأنا أراه ظاهراً وقريباً».
بهذا يتبين لنا أن رؤية عبدالملك الفكرية، التي يشي بها تفسيره الآنف، هي التي عول عليها ليعضد صلات نصه السردي بما هو موضوعي، وليبوح في أعطافها عن نظرته الذاتية؛ رغبةً منه في السمو بإنتاجه الإبداعي، وإيماناً منه بأن تلك العلاقة الثنائية هي سبيله الوحيد للتمكن من استشراف المستقبل، وتلبية مقاصده الفكرية والجمالية».
القبض على الشخصية وتأويلها
في دراسة لها بعنوان «السرد الحكائي والخطاب الأيديولوجي في قصص عبدالملك» تقول الناقدة هدى قزع إنه تبين لها أن للراوي في قصصه حضوراً بارزاً، فهو حدد خطية الزمن وانحرافه، وضبط إيقاعه، وكشف أفكار شخصياته وأخفاها، ومكنها من النظر والقول أو أعفاها، وتحكم بشكل لافت فيما يقدمه من منظومات سردية، فقبض على طرق تقديم شخصياته، وكيفية تأويل مصيرها، فملك زمام إصدار الأحكام برؤيته التي اصطبغت برؤى أيديولوجية ساءلت المعتقدات، والمتصورات، والأحوال التي تعيشها شخصياته القصصية، مما جعل قصصه نابضة بتمثلات عديدة لهذا الراوي، حضر معها كاتب واقعي، وقد اتسم الراوي في قصص عبد الملك بسمات خاصة، فعلى صعيد الترتيب الزمني كان للراوي حضور تحكم في انتظام الحكاية وأحداثها، إذ رتبها حسب تقويمه، مما جعل قصصه باثة لعدد من الاسترجاعات والاستباقات، التي أسهمت بتأدية وظائف متباينة منها معاضدة الحكاية الأولية، وإتمام ما نقص منها، وتجلية العالم الحكائي للمروي له، وتوضيح ما يربط بين مقوماته من علاقات وصلات، وخلق الإثارة والتشويق، ومنها وظائف غير سردية تظهر في اتجاه الرواي إلى توجيه المروي من الأحداث نحو غايات مخصوصة، إذ عدل الراوي عن تعاقب الحكاية وخطها الزماني، في سبيل إبداء الآراء والأحكام في صورة مفارقة للمتوقع».
الراوي عند عبدالملك
واعتبر الروائي الراحل عبدالله خليفة في كتابه «الراوي في عالم عبدالملك القصصي» أن عبدالملك يبرز كقاص «اجتماعي» بالدرجة الأولى، بتركيزه على شرائح اجتماعية معينة ويقوم بتصويرها فتغدو كتابته حينئذ سجلاً اجتماعياً لحالات خاصة، ومواقع عديدة من الصراع الاجتماعي ولا توجد قصص غير اجتماعية، كما هو معروف، فكل القصص تنبثق من الحياة، مهما كانت القصة مجردة وتعبيرية، فإن جذورها التعبيرية لابد وأن تكشف، إلا أن التعبير المستخدم هنا عندما نقول «اجتماعية» يفيدنا في اكتشاف منحى خاص لدى المبدع، فالعديد من قصص عبدالملك لقطات تصور جوانب موحية في مسار المجتمع، وتقدم نماذج قريبة من الوجود الحقيقي، هذا الجانب يرتبط بشخصية الراوي/المؤلف التي اتخذها الكاتب، فهو يتتبع ما يدور في محيطه، ويقتنص شخصيات وحالات من البيئة وكثيراً ما يقدمها بملامحها المتواجدة في الواقع ذاته.
الواقع والخيال
في حوار أجراه معه الشاعر مهدي سلمان، يقول عبدالملك: «في الغالب تكون الرواية مزيجاً من الأحداث الواقعية والخيالية، كل أدب هو مزيج من هذا وذاك، لذلك من الضرورة أن نفرق بين كتابة التاريخ وبين كتابة الرواية، تحديد الأسماء في هذه الرواية سيعني أنني لا أكتب رواية بل نوعاً من التوثيق التاريخي، أنت تعرف أننا في التاريخ قد تمر بنا أحداث رتيبة وغير هادفة، لو أدخلناها في الكتاب التاريخي فهو أمر مهم، ولكن لو أدخلناها في الرواية فستكون تلك الرواية مملة وفاقدة للخيال، فاقدة لمتعة الإشارات التي تلعب في الرواية دوراً مهماً، حين ترتهن للتاريخ تماماً في كتابة رواية تاريخية أنت تأسر نفسك كروائي، أسر لا يخدم الرواية، أنت تقمع الخيال الذي هو جزء أساسي في كتابة أي رواية، أنت تسلب الرواية جزءاً مهماً من تقنياتها الفنية. حين تكون الأحداث في التاريخ ضعيفة درامياً من حقي كروائي أن أتحرر منها، أن أشتغل بوسائل الدرامية لتتعمق الرواية أكثر، لذلك فإن روايتي لا تعنى بأشخاص محددين، ليست معنية بما قد تذهب إليه أنت كقارئ، قد تذهب لبعض الأحداث التي حدثت أو لم تحدث وقتها أنت كقارئ عليك أن تعلم أن الروائي كان مخلصاً للتقنية الروائية الضرورية والفنية، لا للحدث التاريخي البحت».
صراعٌ لا ينتهي
يقول الصحافي والشاعر علي الستراوي عن تجربة «الإمبراطور الصغير» لعبد الملك: صراعٌ لا ينتهي، دوامة مثقلة بما يرزح عليها، هي صعبة في الدوران، أحداث لا تستطيع الخروج من بطن التاريخ، مثقلة بالعذابات والأحزان، والضنك اليومي؟ تتصاعد الأحداث، والإمبراطور لا يلين وإذا لان فللحظاتٍ وتحت ضغط المحتجين، والجزر الأرخبيلية تفيض بالثروات، وكلما لامس الإمبراطور بريق هذه الثروات وتعاظمها ازدادت شهوته نحو الإصرار على البقاء واستعمار هذه الجزر، الإمبراطور الصغير، لا يعنيه الناس الآخرون بقدر ما تعنيه الثروة التي يجنيها من هذه الجزر، ولما مر الوقت سريعاً كبرت هذه المستعمرات لوجود الثروة المخزونة في هذه الجزر، هكذا قدم عبدالملك روايته الجديدة «الإمبراطور الصغير» رواية مشحونة بالأحداث، ومكتظة بالآلام وبشجون الناس الذين يعيشون في أرخبيل مكون من الجزر التي استعمرت من قبل الأجنبي بحثاً عن الثروة المخزونة في هذه الجزر، رواية نهجَ في تأليفها الروائي منهجاً توثيقياً تاريخياً، متصلاً بأحداث لا تنقطع، وصراعات أفرزتها علاقة الإمبراطور بالناس أبناء الجزر، ونحت الرواية منحى شخوصياً واقعياً مرتبطاً بأحداث مشحونة ومتصلة بنضال الناس، بعد استعمار طويل لهذه الجزر من قبل الغزاة الذين استحوذوا على خيرات هذه الجزر الغنية بالثروات.
سلالم الهواء
في غلاف الرواية نقرأ للناشر الرواية عن سجين في قلعة خفية، لا يفهمه الآخرون، ولا يريد أن يفهمهم.. سجين ليس داخل بناية تتألف من جدران إسمنتية وقضبان حديدية ويحرسها رجال عتاة يتطاير الشرر من عيونهم، كلا.. إنه سجين داخل نفسه وهو يعرف ذلك ولكنه لا يستطيع الخروج من هذا السجن الرهيب، إنه مثل كافكا، لا يجد نفسه إلا مع الكتابة لكي يهرب من العبء الذي يسمونه الحياة، الطبيب النفساني يريده أن يكون إيجابياً، والإيجابية عنده تختلف عما يراه الطبيب، تلك هي الحالة التي يعاني منها بطل رواية «سلالم الهواء» لعبدالملك.
الأمكنة التي يعيش فيها البطل، الذي سنعرف أنه كاتب روائي، ليست مهمة، أما الزمان، فلا زمان داخل الأجساد المتعبة والعقول المتشظية.. هذا الانسحاق الذي يعيشه الكاتب، يشبه الانسحاق الذي يتفاعل فيه كافكا في رواية المسخ، فهل يجد كافكا، ومؤلف «سلالم الهواء»، أو بطل روايته الهدوء والسكينة، أو لنقل التوازن، خارج حدود الكتابة؟ كلا.. ليس ثمة خلاص، الجانب المظلم من الحياة هو الذي يسود في هذه الحالة، حالة أن تعجز عن المواصلة مع الآخرين وتذهب إلى نفسك حيث تتصارع وتتصادم الصور والأفكار المشوشة في ذهنك.