أجمع خبراء استراتيجيون وباحثون على أن الأزمة السورية أضحت تمثل تهديداً إقليمياً خطيراً خاصة على أمن دول مجلس التعاون الخليجي على خلفية التدخلات الدولية والإقليمية وأصبحت صراعاً بالوكالة ومن ثم الحلول باتت في يد أطراف خارجية تماماً ومن الصعب التوصل إليها في المستقبل المنظور. وتوصل المتحاورون، في الندوة التي نظمها مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات» أمس، إلى أن الوضع الحقيقي في الساحة السورية معقد جداً ومن غير المتوقع الوصول إلى منظومة مناسبة لحله خلال المستقبل القريب، وأنه من الممكن أن تقدم الأزمة السورية فرصة كبيرة لروسيا لإعادة تواجدها في الشرق الأوسط إذا لم تحدث مفاجآت جديدة في المشهد السوري، وكشفوا أن الأزمة السورية قد أفرزت وضعاً عالمياً جديداً تجاه العرب والمسلمين بصورة عامة بسبب إرهاب جماعات دون الدول من جهة، وأعداد اللاجئين السوريين المتوجهين لأوروبا من جهة أخرى، كما أن جماعات ما دون الدول لديها دعم غير معلن من قبل بعض الدول الإقليمية والدول العظمى، وأكد المنتدون أن دول مجلس التعاون بحاجة ملحة لخلق قوة إقليمية فيما بينها إما من خلال مشروع الاتحاد الخليجي أو من خلال تبني مشروع استراتيجي جديد.
آثار بعيدة المدى
وقال رئيس مجلس أمناء «دراسات»خالد الفضالة إنه على الرغم من أن الأزمة السورية ليست وليدة اليوم، فهي أوشكت على إكمال عامها الخامس، ولكنها نموذج واضح لكيفية تحول الأزمات من نطاقها المحلي، إلى المستويين الإقليمي والعالمي، مضيفاً أن المرحلة التي تطورت إليها الأزمة السورية تؤكد أن حلها لم يعد مرتهناً بأطرافها على المستوى المحلي؛ إذ اختلطت فيها الأوراق بشكل كبير، وتداخلت مصالح الأطراف المشاركين فيها؛ الأمر الذي أسفر عن تشكيل تحالفات وصراعات عالمية، كما هو مشاهد في الوضع الحالي على الأرض السورية الشقيقة، بل إن الصراع حالياً فيها قد أصبح «صراعاً بالوكالة». كما أن استمرار وجود تنظيم داعش في هذه الأزمة، على الرغم من الضربات المستمرة التي تستهدف أعضاءه، أمر يثير العديد من التساؤلات حول قدرات ذلك التنظيم على الأرض، ومصادر تمويل عملياته.
وأكد الفضالة أن الأزمة السورية ليست أزمة عابرة أو وقتية، ومن المهم التعامل بحكمة في كيفية إنهائها؛ لأنها سوف تترك آثاراً بعيدة المدى، ليس فقط على سوريا كدولة، وإنما على منظومة الأمن الإقليمي برمتها، التي تتفاعل معها دول مجلس التعاون تأثراً وتأثيراً. ولا أبالغ في القول إذا قلت إن ما ستؤول إليه تلك الأزمة سيكون محدداً، بشكل كبير، لموازين القوى الدولية، في ظل دخول روسيا على خط التفاعل في هذه الأزمة، وما أثاره هذا التدخل من ردود أفعال غربية، سواء من جانب الولايات المتحدة أو حلف الناتو، وفي ظل توتر العلاقات بين تركيا وروسيا.
ونوه الفضالة أنه في ظل استمرار طوق الأزمات الإقليمية المزمنة التي تحيط بدول مجلس التعاون، فإن دول المجلس مدعوة الآن -أكثر من أي وقت مضى- لأن يكون لها دور بما يتوافق مع مصالحها الاستراتيجية المستقبلية، وليس فقط كطرف حاضر في أي تحولات إقليمية من الممكن تمر بها المنطقة. مضيفاً بأن إعلان المملكة العربية السعودية عن تأسيس تحالف إسلامي عسكري لمحاربة الإرهاب يعد خطوة بالغة الأهمية، مضموناً وتوقيتاً، في ظل الحالة الضبابية التي تميز الاستراتيجيات الدولية لمكافحة الجماعات الإرهابية التي لم تعد ترتبط ببقعة جغرافية محددة، بل أصبحت عابرة للحدود؛ الأمر الذي يستلزم حتمية صياغة استراتيجيات شاملة ومحددة؛ للتصدي لها من منظور إقليمي.
تحالفات وصراعات
وكشف الفضالة أن الأزمة السورية أظهرت تحالفات، وخلقت صراعات في الوقت ذاته. وتشهد التحالفات تغيراً سريعاً مع التعقيد الذي يصاحب هذه الأزمة. ومن ذلك على سبيل المثال التنسيق الإيراني الروسي في بداية التدخل الروسي في سوريا، الذي سرعان ما شهد اختلافاً في الرؤى بين الجانبين. كما يمر التنسيق الروسي الإسرائيلي بأعلى مستوياته في هذه المرحلة، وهناك محور الولايات المتحدة، وحلف الناتو، والاتحاد الأوروبي. فعلى الرغم من أن حلف الناتو ليس طرفاً في ذلك النزاع، إلا أن الأزمة التي نشبت بين روسيا وتركيا؛ بسبب قيام الأخيرة بإسقاط طائرة مقاتلة روسية، أجبرت الحلف على الإعلان عن دعم تركيا بوصفها أحد أعضائه.وفي واقع الأمر، فإنه لا يمكن الفصل التام بين هذه التحالفات والمحاور؛ حيث إن مصالح أطرافها تتداخل أحياناً، إلا أن الأمر المهم هنا هو أن الأزمة السورية قد عكست خريطة واسعة من التحالفات والمصالح التي تحكم سلوك الأعضاء الفاعلين فيها.
وأوضح الفضالة أن الندوة تستهدف التحليل العميق والرصين لمواقف أطرافها ومصالحهم، أين تلتقي، وأين تتقاطع؟ بل والأهم أين موقع دول مجلس التعاون من هذه الأزمة ؟ بمعنى آخر، ما هي التحديات التي أفرزتها هذه الأزمة على أمن دولنا، وما هي الفرص الحالية والمستقبلية المتاحة أمام دول المجلس للتأسيس لآليات إقليمية لمواجهة الأزمات عموماً؛ للحيلولة دون تدويلها بما قد يتعارض مع مصالح دولنا.
الدور الروسي
من جهته قال المدير التنفيذي لمركز دراسات د. خالد الرويحي إنه منذ أن أعلنت روسيا عن مشاركتها الفعلية في الحرب الدائرة في سوريا مع بداية شهر أكتوبر الماضي، بدأت الرؤية تتضح جلياً بأن الصراع الأهلي السوري الذي بدأ في 2011، ثم تحول إلى صراعٍ إقليميٍ بسبب التدخل الإيراني من جهة، وجماعة حزب الله الإرهابية من جهة أخرى، وصعود جماعات ما دون الدول مثل القاعدة وداعش وغيرها من المسميات، أصبح مع التدخل الروسي الأخير صراعاً عالمياً، بكل ما تحمله هذه الكلمة من تعريفات سياسية وأمنية. فالتدخل الروسي كان بمثابة استعراض عسكري للقوة، ورسالة سياسية موجهة بشكلٍ أساس إلى الإدارة الأمريكية وحلفائها الأوربيين، للتأكيد على حقيقة أن العالم اليوم لم يعد أحادي القطبية كما كان منذ أن انتهت الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1991.

وأوضح الرويحي أنه من الناحية الاستراتيجية، فإن القوة العسكرية الروسية التي يتم استخدامها في سوريا لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال مقارنتها بأي من القوى الأخرى الموجودة على أرض المعركة، سواء من قبل القوات الموالية للرئيس الأسد، أو الجماعات الأخرى المُشارِكَة في المعارك الدائرة في الأحياء والمدن السورية. وهذه القوة هي بالتأكيد لم تكن منذ البداية موجهة للجماعات الإرهابية، كما ادعت الحكومة الروسية مع بداية تدخلها العسكري، بل هي دعم عسكري مباشر لضمان بقاء الرئيس الأسد في منظومة حكمه المتهاوية، كما صرح بذلك الرئيس بوتين مؤخراً. مضيفاً بأن التدخل الروسي قد ساهم بشكلٍ كبيرٍ في خلطِ أوراق الأزمة السورية، وفشلت بسببه العديد من الخطط التي كانت تحاول تنفيذها العديد من الدول التي دعمت المعارضة المعتدلة في بداية الأزمة.
حروب بالوكالة
وأكد الرويحي بأن الصراعات بين القوى العالمية أصبحت اليوم حروباً بالوكالة، تدفع ثمنها الدول الضعيفة التي عادةً ما تتوفر فيها البيئة المناسبة لتكون بمثابة ساحة التجارب لهذه القوى. مشيراً إلى أن الدور الذي تقوم به الولايات المتحدة في سوريا، في ظل التدخل العسكري الروسي، يعد إحدى أعقد التحالفات الضمنية التي استطاعت الدولتين العظميين الاتفاق عليها، منذ نهاية الحرب الباردة. وليس ادل على ذلك ما أعلن عنه في الثالث من نوفمبر الماضي بأن مقاتلة أمريكية وأخرى روسية أجرتا اختباراً على الاتصال في سماء جنوب وسط سوريا للتحقق من بروتوكولات السلامة التي تم الاتفاق عليها بين الدولتين، حسبما أكدته الولايات المتحدة وروسيا لاحقاً.
ووصف الرويحي الأزمة السورية بأنها ليست كأي أزمة أخرى تمر بها أي دولة في العالم. هي أزمة كاملة التعقيد، وفيها العديد من الدروس التي تتطلب تحليلاً عميقاً من المراكز الفكرية، للوصول إلى النتائج التي من الممكن الاستفادة منها لأي أزمات مستقبلية من الممكن أن تحدث في المنطقة.
وقد تكونت الندوة التي شارك فيها عدد من باحثي المركز ومجموعة من المفكرين، من ثلاثة محاور تناول المحور الأول حول اللاعبون في الساحة المحلية ومصالحهم ومصادر قوتهم، وتناول المحور الثاني الأطراف الإقليمية والدولية، فيما تناول المحور الثالث تأثير الأزمة على الأمن الإقليمي.
اللاعبون
وأوضح رئيس وحدة الدعم المعلوماتي بالمركز د.محمد الهاجري أنه لفهم تعقيدات المشهد السوري يجب تناول النتائج التي صارت واقعاً على الأرض السورية، فهناك حالياً على الأقل خمسة مشاهد كبرى من شأنها أن تكون محركات وتيارات مؤثرة لتشكيل مستقبل سوريا. المشهد الأول وهو ما يتعلق بالمقاتلين في سوريا حيث يقدر عدد المقاتلين السوريين في الفصائل السورية بأكثر من 100 ألف مقاتل ضد النظام السوري، وهنالك أيضا المقاتلين الأجانب وهم على فئتين، الفئة الأولى تقاتل بجانب النظام السوري وتتألف بحسب تقديرات الخبراء الأمنيين بنحو 110 ألف مقاتل، والفئة الثانية هي المقاتلين الأجانب الذين ينضمون إلى الجماعات المتطرفة وخاصة تنظيمي داعش وجبهة النصرة وتشير التقديرات بوجود نحو 27 إلى 30 ألف مقاتل أجنبي.
أما المشهد الثاني فهو ما يتعلق بالضحايا الذين سقطوا جراء الأزمة السورية والذين تقدر أعدادهم بربع مليون، بالاضافة إلى 700 ألف جريح. أما المشهد الثالث فهو ما يتعلق باللاجئين والنازحين، يقدر عدد النازحين داخل سوريا بنحو 7 مليون، وعدد اللاجئين المسجلين خارج سوريا بنحو 4.2 مليون لاجئ، كما يقدر عدد طالبي اللجوء بنحو 11 مليون شخص. أما المشهد الرابع فهو تواجد قوات الدول العظمى وبخاصة روسيا وأمريكا في الاراضي السورية. أما المشهد الخامس فهو ما تم في المؤتمر الموسع الذي ضم الفصائل المسلحة في سوريا والذي عقد بالرياض، حيث اتقفت الفصائل على سبع مبادئ أساسية.
دائرة التدويل
وأشار مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية د.أشرف كشك إلى أن الأزمة السورية تعد نموذجاً لأزمة محلية استقطبت أطرافاً إقليمية ثم استدعت تدخلا دولياً الأمر الذي يعني أنها دخلت دائرة التدويل والدليل على ذلك أن كافة الحقائق على الأرض وجهود حل الأزمة من خلال قرارات أممية تعكس مصالح الأطراف الدولية في المقام الأول، بل أن تلك الجهود بها تفاهمات وتنازلات متبادلة بين تلك القوى الدولية.
وحول مواقف الأطراف الدولية قال كشك إن الولايات المتحدة الأمريكية قررت إدارة الأزمات بدلاً من حلها ومن بينها الأزمة السورية، كما أن التدخل الأمريكي في الأزمات يظل مرتهناً بعدة اعتبارات منها ما هو مدى تهديد تلك الأزمات للمصالح الأمريكية وما هو الواقع الإقليمي المتوقع بعد ذلك التدخل؟ من ناحية ثانية فإن الولايات المتحدة لايزال لها دور في الأزمات الإقليمية ولكن بشكل غير مباشر من خلال القيادة من الخلف.
وبالنسبة لحلف الناتو قال كشك إن الحلف يخوض صراعاً مع روسيا في أعقاب الأزمة الأوكرانية حيث تسعى روسيا لتعزيز وجودها العسكري في المناطق الاستراتيجية المتاخمة للحلف ويرى صانعو القرار في الحلف أن هناك قوسين من الأزمات الأول هي القوس الشرقية وتضم باكستان وأفغانستان ودول آسيا الوسطى والقوس الجنوبية وتضم دول شمال أفريقيا والدول المطلة على البحر المتوسط وتكمن الخطورة بالنسبة للحلف في إمكانية قيام تحالف بين القوسين وهو ما أوجدته الأزمة السورية الراهنة.
واعتبر د.كشك أن الأزمة السورية ترسيخ للمزيد من التدخلات الدولية في الأمن الإقليمي، كما أنه بغض النظر عما ستؤول إليه الأزمة فإن كلاً من تركيا وإيران تظل أطرافاً رابحة، بالإضافة إلى أن الأمن الإقليمي يمكن أن يشهد ظاهرة المحاور، وقال كشك إن الإعلان عن التحالف العسكري الإسلامي للتصدي للإرهاب بقيادة المملكة العربية السعودية يعد خطوة مهمة للغاية من حيت تأسيس هوية للأمن الإقليمي، كما أنه يمثل مواجهة حقيقية لظاهرة الإرهاب وليس توظيفها لتحقيق مصالح معينة، وقال كشك إن القضية الفلسطينية هي أكثر القضايا التي تأثرت سلباً نتيجة من تداعيات الأزمة السورية.
وتحدث الباحث محمد بوحسن عن الفصائل المقاتلة في سوريا ومن يقف خلفها، كما تحدث عن العلاقة الروسية السورية التي قد بدأت منذ اوائل منذ الاتحاد السوفيتي وأن التعاون قائم على التعاون الاستراتيجي. فيما تحدث الباحث عبدالعزيز الدوسري المختص في الشأن الاقتصادي عن مصادر تمويل داعش من النفط وكيف وظفت عملياتها داخل سوريا بحيث أن سوريا تنتج نصف مليون برميل نفط وذلك قبل الثورة. وبعد إعلان داعش نفسها في عام 2013 استولت على أكثر الحقول النفطية في سوريا وانتقلت الحقول النفطية من يد المعارضة المعتدلة إلى يد داعش، بحيث ينتج تنظيم داعش ما يقارب 20-30 ألف برميل يومياً من النفط الخام. كما تحدث الباحث محمود عبدالغفار عن الدور الايراني وحزب الله في سوريا وأنها تعتبر سوريا المحافظة الخامسة والثلاثين، وأن سوريا جزء من نفوذ طهران، وتعتبر سوريا بوابتها إلى العالم العربي. وأشار إلى أن إيران تدعم نظام الأسد بشكل كامل من حيث عوامل عدة، سياسياً يعمل حلفاء ايران في المجتمع الدولي التصويت ضد جرائم بشار الأسد ، توفير الإمكانيات الاعلامية لتبرير جرائم الاسد، ومن الناحية الاقتصادية إيران تكبدت بخسائر كبيرة مالية كبيرة بسبب دعمها لنظام الأسد. أما عسكرياً فقد فشل جيش النظام عدة مرات في المعارك التى خاضها ضد المعارضة.أما بخصوص مستقبل الوجود الايراني في سوريا فقد قال الباحث محمود بأن إيران الآن تشعر بالتعب من دعمها للأسد ومن الوجود المباشر لقوات الحرس الثوري.
وتناولت الباحثة مروة العبيدلي توظيف داعش للآلة الإعلامية الإلكترونية حيث أصبحت هناك طفرة غير مسبوقة للدعاية حول الجهاد المتطرف. وأوضحت بأن داعش اتخذت هدفاً لتوسيع نفوذها في المنطقة، بتوثيق كافة جوانب وجودها كمجموعة على الكاميرات المتقدمة. وتطرقت الباحثة أهمية وسبل مواجهة هذا الأمر من الناحية الإعلامية.